فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والذكرى: اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرّجعى والبُقيا لأن زيادة المبنَى تقتضي زيادة المعنى.
والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة، أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا، فالدار التي هي محلّ عنايتهم هي الدار الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأقول مَا لي وللدنيا».
وأشار قوله تعالى: {بخالصةٍ ذكرى الدَّارِ} إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإِلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحذر من المعصية وحبُّ الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نُهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبيء يكره بها المعاصي، فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف، وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا: العصمة عدم خَلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية، وقوللِ المعتزلة: إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي، فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية، وبه يظهر أيضًا أن العصمة لا تنافي التكليف وترتَّب المدححِ على الطاعات.
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر {خالصة} بدون تنوين لإِضافته إلى {ذكرى الدارِ} والإضافة بيانية لأن {ذِكرى الدَّارِ} هي نفس الخالصة، فكأنه قيل: بذكرى الدار، وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله، وإنما ذكر لفظ {خالصة} ليقع إجمال ثم يفصل بالإِضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا إليه.
والتعريفُ بالإِضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام.
وقرأ الجمهور بتنوين {خالصةً} فيكون {ذكرى الدار} عطف بيان أو بدلًا مطابقًا.
وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر.
وإضافة {خالصة} إلى {ذِكرى الدَّارِ} في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف.
ويجوز أن يكون {ذِكرى} مرادف الذكر بكسر الذال، أي الذكر الحسن، كقوله تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليًا} [مريم: 50] وتكون {الدَّارِ} هي الدار الدنيا.
ويجوز أن يكون مرادفًا للذُّكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين.
و{الدار} الدار الآخرة.
وعطف عليه: {إنهم عندنا لمن المصطفَيْن الأخيار} لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخيارًا.
و{الأخيار} جمع خيّر بتشديد الياء، أو جمع خيْر بتخفيفها مثل الأموات جمعًا لميّت وميْت، وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف.
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} فصل ذكر إسماعيل عن عدّه مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية، أي معظمِها فإنه أبو العدنانيين.
وجدّ للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا.
وأمّا قرنه ذِكرَه بذكر اليسَع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله: {وكُلٌّ مِنَ الأخيارِ} لأن التماثل في الخيريّة والاصطفاء ثابت لجميع الأنبياء والمرسلين، فلا يكون ذكرُهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء، فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في المفتاح، قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله:
لا والذي هو عالم أن النوى ** صبر وأن أبا الحسين كريم

حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعلق علم الله بهما وذلك مساوٍ لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية.
فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسّنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل.
فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس إيليا وكان إلياس يدافع ملوك يهوذا وملوكَ إسرائيل عن عبادة الأصنام، وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم، وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبيّن في سفر الملوك الثاني الإصحاح 1/ 2.
وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء (85) {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين}.
وقرأ الجمهور: {الْيسع} بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف، فدع عنك ما أطالوا به.
وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجميّ معرب، والهمزة واللام، أوْ واللامان أصلية.
وتنوين {كلٌ} في قوله: {وكُلٌّ من الأخيارِ} عوض عن المضاف إليه، أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار.
وتقدم ذكر اليَسع في سورة الأنعام، وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} الضغث: حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل: القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه قولهم: ضغث على إبالة، والإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: القبضة عليها من الحطب أيضًا، ومنه قول الشاعر:
وأسفل مني نهدة قد ربطتها ** وألقيت ضغثًا من خلى متطيب

الحنث: فعل ماحلف على تركه، وترك ما حلف على فعله، الغساق: ما سال، يقال: غسقت العين والجرح.
وعن أبي عبيدة: أنه البارد المنتن، بلغة الترك؛ وقال الأزهري: الغاسق: البارد، ولهذا قيل: ليل غاسق، لأنه أبرد من النهار.
الاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة: الشدة.
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألباب وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أوّاب واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل الأخيار}.
لما أمر نبيه بالصبر، وذكر ابتلاء داود وسليمان، وأثنى عليهما، ذكر من كان أشدّ ابتلاء منهما، وأنه كان في غاية الصبر، بحيث أثنى الله عليه بذلك.
وأيوب: عطف بيان أو بدل.
قال الزمخشري: وإذ بدل اشتمال منه.
وقرأ الجمهور: {أني} بفتح الهمزة، وعيسى: بكسرها، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: إنه مسه، لأنه غائب، وأسند المس إلى الشيطان.
قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببًا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه إلا هو.
وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل.
وذكر في سبب بلائه أن رجلًا استغاثه على ظالم، فلم يغثه.
وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يفده.
وقيل: أعجب بكثرة ماله. انتهى.
ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك كان سببًا لما مسه الله به من النصب والعذاب، ولا أن رجلًا استغاثه على ظالم فلم يغثه، ولا أنه داهن كافرًا، ولا أنه أعجب بكثرة ماله.
وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم.
والذي نقوله: أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله، على ما روي في الأخبار.
وروى أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته.
وأما إسناده المس إلى الشيطان، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فحينئذ قال: {مسني الشيطان} نزل لشفقته على المؤمنين.
مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر؛ ولذلك جاء بعده: {اركض برجلك} حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء.
وقيل: أشار بقوله: {مسني الشيطان} إلى تعريضه لامرأته، وطلبه أن تشرك بالله، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشدّ من مرضه.
وقرأ الجمهور: {بنصب} بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب، كوثن ووثن؛ وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص، والجعفي عن أبي بكر، وأبو معاذ عن نافع: بضمتين، وزيد بن علي، والحسن، والسدّي؛ وابن عبلة، ويعقوب، والجحدري: بفتحتين؛ وأبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص: بفتح النون وسكون الصاد.
وقال الزمخشري: النصب والنصب، كالرشد والرشد، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة.
والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. انتهى.
وقال ابن عطية: وقد ذكر هذه القراءات، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة، وكثيرًا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء.
وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم: أنصبني الأمر، إذا شق عليّ انتهى.
وقال السدّي: بنصب في الجسد وعذاب في المال، وفي الكلام حذف تقديره: فاستجبنا له وقلنا: {اركض برجلك} فركض، فنبعت عين، فقلنا له: {هذا مغتسل بارد وشراب} فيه شقاؤك، فاغتسل فبرأ، {ووهبنا له} ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه.
وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء.
وعن قتادة والحسن ومقاتل: كان ذلك بأرض الجابية من الشأم.
ومعنى {هذا مغتسل} أي ما يغتسل به، {وشراب} أي ما تشربه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك.
والظاهر أن المشار إليه كان واحدًا، والعين التي نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى.
وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة فاغتسل.
وباليسرى، فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: {مغتسل بارد} فإنه يدل على أنه ماء واحد.
وقيل: أمر بالركض بالرجل، ليتناثر عنه كل داء بجسده.
وقال القتبي: المغتسل: الماء الذي يغتسل به.
وقال مقاتل: هو الموضع الذي يغتسل فيه.
وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحوًا من أربعين ذراعًا، ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها.
قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان، شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى.
والجمهور: على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم.
وقيل: رزقه أولادًا وذرية قدر ذريته الذين هلكوا، ولم يردّ أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا.
وقيل ذلك وعد، وتكون تلك الهيئة في الآخرة.
وقيل: وهبه من كان حيًا منهم، وعافاه من الأسقام، وأرغد لهم العيش، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم.
و{رحمة} {وذكرى} مفعولان لهما، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه، وليتذكر أرباب العقول، وما يحصل للصابرين من الخير، وما يؤول إليه من الأجر.
وفي الكلام حذف تقديره: وكان حلف ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها، وكانت محسنة له، فجعلنا له خلاصًا من يمينه بقولنا: {وخذ بيدك ضغثًا}.
قال ابن عباس: الضغث: عثكال النخل.
وقال مجاهد: الأثل، وهو نبت له شوك.
وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة.
وقال الأخفش: الشجر الرطب، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه.
ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو.
وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن، فذكرت ذلك له، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف.
وقيل غير ذلك من الأسباب، وهي متعارضة.
فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام.
أتى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم بمخدج قد خبث بأمة فقال: «خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة» وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان، قال: ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة، إما أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة، مع وجود صورة الضربة.