فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} قرأ ابن كثير: {واذكر عبدنا} على الإفراد، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة. وقرأ الباقون: {واذكر عبادنا} على الجمع، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية، وأما على قراءة من قرأ {عبدنا} فقال مكي وغيره: دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر.
وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح {إسحاق} من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور: {أولي الأيدي}.
وقرأ الحسن والثقفي والأعمش وابن مسعود: {أولي الأيد} بحذف الياء، فأما أولو فهو جمع ذو، وأما القراءة الأولى ف {الأيدي} فيها عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق، فهي كالأيادي. وقالت فرقة: بل معناه: أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة. وقال قوم المعنى: أيدي الجوارح، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير والأبصار الثاقبة فيه، لا كالتي هي منهملة في جل الناس، وأما من قرأ {الأيد} دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفًا، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين. وقالت فرقة: معنى {الأيدي} القوة، والمراد طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: {والأبصار} عبارة عن البصائر، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى، وبنحو هذا فسر الجميع.
وقرأ نافع وحده: {إنا أخلصناهم بخالصةِ ذكرى الدار} على إضافة {خالصةِ} إلى {ذكرى} وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة. وقرأ الباقون والناس: {بخالصةٍ ذكر الدار} على تنوين {خالصة} وقرأ الأعمش: {بخالصتهم ذكر الدار} وهي قراءة طلحة.
وقوله: {بخالصة} يحتمل أن يكون خالصة اسم فاعل كأنه عبر بها عن مزية أو رتبة، فأما من أضافها إلى {ذكرى} ف {ذكرى} مخفوض بالإضافة، ومن نون {خالصةٍ} ف {ذكرى} بدل من {خالصة} ويحتمل قوله: {بخالصة} أن يكون {خالصة} مصدرًا كالعاقبة وخائنة الأعين وغير ذلك، ف {ذكرى} على هذا ما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير: {إنا أخلصناهم} بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، ويكون {خالصة} مصدرًا من أخلص على حذف الزوائد، وإما أن يكون {ذكرى} في موضع رفع بالمصدر على تقدير {إنا أخلصناهم} بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وتكون {خالصة} من خلص.
و{الدار} في كل وجه في موضع نصب ب {ذكرى} و{ذكرى} مصدر، وتحتمل الآية أن يريد ب {الدار} دار الآخر على معنى {أخلصناهم} بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها وحضهم عليها، وهذا قول قتادة، وعلى معنى خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب قول مجاهد. وقال ابن زيد: المعنى إنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم إياه، ويحتمل أن يريد ب {الدار} دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي، فتجيء الآية في معنى قوله: {لسان صدق} [مريم: 50، الشعراء: 84] وفي معنى قوله: {وتركنا عليه في الآخرين} [الصافات: 78، 108، 119، 129]. و{المصطفين} أصله: المصطفيين، تحركت الياء وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفًا، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع، فحذفت الألف. و{الأخيار} جمع خير، وخير: مخفف من خير كميت وميت.
وقرأ حمزة والكسائي: {والليسع} كأنه أدخل لام التعريف على {اليسع} فأجراه مجرى ضيغم ونحوه، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين. وقرأ الباقون: {واليسع} قال أبو علي: الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر: الكامل:
ولقد جنيتك أكمؤًا وعساقلًا ** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وبنات الأوبر: ضرب من الكمأة. واختلف في نبوة {ذي الكفل} وقد تقدم تفسير أمره وقوله تعالى: {هذا ذكر} يحتمل معنيين: أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفًا: إن {الدار} يراد بها الدار الدنيا. والثاني: أن يشير بهذا إلى القرآن، إذ هو ذكر للعالم. والمآب: المرجع حيث يؤوبون. و{جنات} بدل من حسن و{مفتحة} نعت للجنات. و{الأبواب} مفعول لم يسم فاعله، والتقدير عند الكوفيين: مفتحة لهم أبوابها، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة، والتقدير عندهم: الأبواب منها، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لابد أن يكون فيها عائدًا على الموصوف. و{قاصرات الطرف} قال قتادة معناه: على أزواجهن. و{أتراب} معناه أمثال، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة، أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يوعدون} بالياء من تحت، واختلفا في سورة: ق، فقرأها أبو عمرو بالتاء من فوق. وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق. والنفاذ: الفناء والانقضاء. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ} معطوف على قوله: {واذكر عَبْدَنَا داود} وأيوب عطف بيان، و{إِذْ نادى رَبَّهُ} بدل اشتمال من عبدنا {أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان} قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه.
وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول.
وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره.
قرأ الجمهور بضم النون من قوله: {بِنُصْبٍ} وسكون الصاد، فقيل: هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد، وأسد، وقيل: هو لغة في النصب، نحو رشد، ورشد.
وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة، وحفص، ونافع في رواية عنه بضمتين، ورويت هذه القراءة عن الحسن.
وقرأ أبو حيوة، ويعقوب، وحفص في رواية بفتح، وسكون، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات.
وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين: التعب، والإعياء، وعلى بقية القراءات الشرّ، والبلاء، ومعنى قوله: {وَعَذَابٍ} أي: ألم.
قال قتادة، ومقاتل: النصب في الجسد، والعذاب في المال.
قال النحاس: وفيه بعد كذا قال.
والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي، وهو: التعب، والإعياء، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو: الألم، وكلاهما راجع إلى البدن.
{اركض بِرِجْلِكَ} هو بتقدير القول، أي: قلنا له: اركض برجلك كذا قال الكسائي، والركض: الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابة برجله: إذا ضربها بها.
وقال المبرد: الركض: التحريك.
قال الأصمعي: يقال: ركضت الدابة، ولا يقال: ركضت هي؛ لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه: ركضت الدابة، فركضت، مثل جبرت العظم، فجبر {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} هذا أيضًا من مقول القول المقدّر، المغتسل: هو الماء الذي يغتسل به، والشراب: الذي يشرب منه.
وقيل: إن المغتسل هو: المكان الذي يغتسل فيه.
قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها: الجابية، فاغتسل من إحداهما، فأذهب الله ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن.
وقال مقاتل: نبعت عين جارية، فاغتسل فيها، فخرج صحيحًا، ثم نبعت عين أخرى، فشرب منها ماءً عذبًا باردًا.
وفي الكلام حذف، والتقدير: فركض برجله، فنبعت عين، فقلنا له: {هذا مغتسل} إلخ، وأسند المسّ إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك: إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب، والعذاب.
فقد قيل: إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل: استغاثه مظلوم، فلم يغثه، وقيل: إنه قال ذلك على طريقة الأدب، وقيل: إنه قال ذلك؛ لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه، فرفضوه، وأخرجوه من ديارهم، وقيل: المراد به.
ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه، وابتلائه من تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك.
وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} معطوف على مقدّر كأنه قيل: فاغتسل، وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضرّ، ووهبنا له أهله.
قيل: أحياهم الله بعد أن أماتهم، وقيل: جمعهم بعد تفرقهم، وقيل: غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} فكانوا مثلى ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله: {رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لأوْلِى الألباب} على أنه مفعول لأجله، أي: وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه، وليتذكر بحاله أولو الألباب، فيصبروا على الشدائد كما صبر، وقد تقدّم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى، فلا نعيده.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} معطوف على {اركض} أو على {وهبنا} أو التقدير، وقلنا له: {خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقيل: هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادّة تدلّ على جمع المختلطات.
قال الواحدي: الضغث: ملء الكفّ من الشجر، والحشيش، والشماريخ {فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} أي: اضرب بذلك الضغث، ولا تحنث في يمينك، والحنث: الإثم، ويطلق على فعل ما حلف على تركه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة.
واختلف في سبب ذلك، فقال سعيد بن المسيب: إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز، فخاف خيانتها، فحلف ليضربنها.
وقال يحيى بن سلام، وغيره: إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقرّبًا إليه، فإنه إذا فعل ذلك برىء، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة.
وقيل: باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئًا، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها.
وقيل: جاءها إبليس في صورة طبيب، فدعته لمداواة أيوب، فقال: أداويه على أنه إذا برىء قال: أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه، قالت: نعم، فأشارت على أيوب بذلك، فحلف ليضربنها.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاصّ بأيوب، أو عامّ للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك.
قال الشافعي: إذا حلف ليضربنّ فلانًا مائة جلدة، أو ضربًا، ولم يقل: ضربًا شديدًا، ولم ينوِ بقلبه، فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور، وأصحاب الرأي.
وقال عطاء: هو خاصّ بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك.
ثم أثنى الله سبحانه على أيوب، فقال: {إِنَّا وجدناه صَابِرًا} أي: على البلاء الذي ابتليناه به، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده، وذهاب ماله، وأهله، وولده، فصبر {نِعْمَ العبد} أي: أيوب {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجاع إلى الله بالاستغفار، والتوبة.
{واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} قرأ الجمهور: {عبادنا} بالجمع.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير: {عبدنا} بالإفراد.
فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم.
وقد يقال: لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه.
وقيل: إن إبراهيم، وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني، وعطف البيان أظهر، وقراءة الجمهور أبين، وقد اختارها أبو عبيد، وأبو حاتم {أُوْلِى الأيدى والأبصار} الأيدي، جمع اليد التي بمعنى: القوّة، والقدرة.
قال قتادة: أعطوا قوّة في العبادة، ونصرًا في الدين.
قال الواحدي: وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والمفسرون.
قال النحاس: أما الأبصار، فمتفق على أنها البصائر في الدين، والعلم.
وأما الأيدي، فمختلف في تأويلها، فأهل التفسير يقولون: إنها القوّة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد، وهي النعمة، أي: هم أصحاب النعم، أي: الذين أنعم الله عزّ وجلّ عليهم، وقيل: هم أصحاب النعم على الناس، والإحسان إليهم، لأنهم قد أحسنوا، وقدّموا خيرًا، واختار هذا ابن جرير.
قرأ الجمهور {أولي الأيدي} بإثبات الياء في الأيدي.
وقرأ ابن مسعود، والأعمش، والحسن، وعيسى: {الأيد} بغير ياء، فقيل معناها: معنى القراءة الأولى، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها، وقيل الأيد: القوّة وجملة: {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} تعليل لما وصفوا به.
قرأ الجمهور: {بخالصة} بالتنوين، وعدم الإضافة على أنها مصدر، بمعنى: الإخلاص، فيكون ذكرى منصوبًا به، أو بمعنى: الخلوص، فيكون ذكرى مرفوعًا به، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها، أو بيان لها، أو بإضمار أعني، أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولًا به لذكرى، وأن تكون ظرفًا: إما على الاتساع، أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير، فخالصة صفة لموصوف محذوف، والباء للسببية، أي: بسبب خصلة خالصة.
وقرأ نافع، وشيبة، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة تكون ذكرى، وغير ذكرى، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف.
أي: بأن أخلصوا ذكرى الدار، أو مصدر بمعنى: الخلوص مضافًا إلى فاعله.
قال مجاهد: معنى الآية: استصفيناهم بذكر الآخرة، فأخلصناهم بذكرها.
وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة، وإلى الله.
وقال السدّي: أخلصوا بخوف الآخرة.