فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى: جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى: الخلوص، والذكرى بمعنى: التذكر، أي: خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها، ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء.
وأما من أضاف، فالمعنى: أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل، والذكرى على هذا المعنى: الذكر {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} الاصطفاء: الاختيار، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدّدًا ومخففًا؛ والمعنى: إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار.
{واذكر إسماعيل} قيل: وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه، وأخيه، وابن أخيه؛ للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا {واليسع وَذَا الكفل} قد تقدّم ذكر اليسع، والكلام فيه في الأنعام، وتقدَّم ذكر ذا الكفل، والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر هؤلاء: أنهم من جملة من صبر من الأنبياء، وتحملوا الشدائد في دين الله.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم؛ ليسلك مسلكهم في الصبر {وَكُلٌّ مّنَ الأخيار} يعني: الذين اختارهم الله لنبوّته، واصطفاهم من خلقه.
{هذا ذِكْر} الإشارة إلى ما تقدّم من ذكر أوصافهم، أي: هذا ذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبدًا {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي: لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة، والمآب: المرجع، والمعنى: أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله، ورضوانه، ونعيم جنته.
ثم بيّن حسن المرجع، فقال: {جنات عَدْنٍ} قرأ الجمهور: {جنات} بالنصب بدلًا من حسن مآب، سواء كان جنات عدن معرفة، أو نكرة؛ لأن المعرفة تبدل من النكرة، وبالعكس، ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة، وقد جوزه بعضهم.
ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل.
والعدن في الأصل: الإقامة، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام فيه، وقيل: هو اسم لقصر في الجنة، وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ.
وخبرها مفتحة، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي جنات عدن، وقوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، والأبواب مرتفعة باسم المفعول: كقوله: {وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 43] والرّابط بين الحال، وصاحبها ضمير مقدر، أي: منها، أو الألف، واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها.
وقيل: إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة، العائد على جنات، وبه قال أبو عليّ الفارسي أي: مفتحة هي الأبواب.
قال الفراء: المعنى: مفتحة أبوابها، والعرب تجعل الألف، واللام خلفًا من الإضافة.
وقال الزجاج: المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها.
قال الحسن: إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح، انغلقي، فتنغلق.
وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب، وانتصاب {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا} على الحال من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، وقيل: هو حال من {يَدَّعُونَ} قدّمت على العامل {فِيهَا} أي: يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها {بفاكهة كَثِيرَةٍ} أي: بألوان متنوّعة متكثرة من الفواكه {وَشَرَاب} كثير، فحذف كثيرًا لدلالة الأوّل عليه، وعلى جعل {مُتَّكِئِينَ} حالًا من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، فتكون جملة {يَدَّعُونَ} مستأنفة لبيان حالهم.
وقيل: إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين.
{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف أَتْرَابٌ} أي: قاصرات طرفهنّ على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه في سورة الصافات.
والأتراب: المتحدات في السنّ، أو المتساويات في الحسن.
وقال مجاهد: معنى أتراب: أنهنّ متواخيات لا يتباغضن، ولا يتغايرن.
وقيل: أترابًا للأزواج.
والأتراب: جمع ترب، واشتقاقه من التراب، لأنه يمسهنّ في وقت واحد لاتحاد مولدهنّ.
{هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} أي: هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، أو المعنى: في يوم الحساب.
قرأ الجمهور: {ما توعدون} بالفوقية على الخطاب.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن، ويعقوب بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} فإنه خبر {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا} أي: إن هذا المذكور من النعم، والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي: انقطاع، ولا يفنى أبدًا، ومثله قوله: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها.
وقد أخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن الشيطان عرج إلى السماء، فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله: لقد سلطتك على ماله، وولده، ولم أسلطك على جسده، فنزل، فجمع جنوده، فقال لهم: قد سلطت على أيوب، فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانًا، ثم صاروا ماء، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق.
فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، فجاء صاحب الزرع، فقال: يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل على زرعك نارًا، فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل، فقال: يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوًا، فذهب بها؟ ثم جاء صاحب البقر فقال: يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل إلى بقرك عدوًا، فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال: يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل على غنمك عدوًا، فذهب بها؟ وتفرد هو لبنيه، فجمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون، ويشربون إذ هبت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام بأذنيه قرطان، فقال: يا أيوب ألم ترَ إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون، ويشربون إذ هبت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم، ولحومهم بطعامهم، وشرابهم؟ فقال له أيوب: فأين كنت؟ قال: كنت معهم، قال: فكيف انفلتّ؟ قال: إنفلت، قال أيوب: أنت الشيطان؛ ثم قال أيوب: أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام، فحلق رأسه، وقام يصلي، فرنّ إبليس رنة سمعها أهل السماء، وأهل الأرض، ثم عرج إلى السماء، فقال: أي رب إنه قد اعتصم، فسلطني عليه، فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: قد سلطتك على جسده، ولم أسلطك على قلبه، فنزل، فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إلى قرنه، فصار قرحة واحدة، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعى عليه، حتى قالت له: ألا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف، فأطعمتك، فادع الله أن يشفيك، ويريحك قال: ويحك كنا في النعيم سبعين عامًا، فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عامًا، فكان في البلاء سبع سنين، ودعا، فجاء جبريل يومًا، فدعا بيده، ثم قال:
قم، فقام، فنحاه عن مكانه، وقال: اركض برجلك هذا مغتسل بارد، وشراب، فركض برجله، فنبعت عين، فقال: اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضًا، فقال: اركض برجلك، فنبعت عين أخرى فقال له: اشرب منها، وهو قوله: {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب، فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله أين المبتلي الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب قد ذهبت به، أو الذئاب، وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب قد ردّ الله عليّ جسدي، ورد عليه ماله، وولده عيانًا، ومثلهم معهم، وأمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده، ثم يجعله في ثوبه، وينشر كساءه، ويأخذه، فيجعل فيه، فأوحى الله إليه: يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك، ورحمتك؟ وفي هذا نكارة شديدة، فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه، ويسلط عليه هذا التسليط العظيم.
وأخرج أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق، وأخذ تابوتًا يداوي الناس، فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول: أنت شفيتني لا أريد منه أجرًا غيره.
فأتت أيوب، فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثًا، فيضربها به، فأخذ عذقًا فيه مائة شمراخ، فضربها ضربة واحدة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} قال: هو الأسل.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضًا قال: الضغث: القبضة من المرعى الرطب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: الضغث: الحزمة.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والطبراني، وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: حملت وليدة في بني ساعدة من زنا، فقيل لها: ممن حملك؟ قالت: من فلان المقعد، فسئل المقعد، فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «خذوا عثكولًا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والطبراني، وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن سعيد بن سعد بن عبادة.
وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه.
وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أيوب رأس الصابرين يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أُوْلِى الأيدى} قال: القوّة في العبادة {والأبصار} قال: الفقه في الدين.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {أُوْلِى الأيدى} قال: النعمة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} قال: أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} أي هذا القرآن فيه ذِكْرُ ما كان، وذِكْرُ الأنبياء والقصص.
ويقال إنَّه شرفٌ لك؛ لأن معجزةٌ تدل على صِدْقِك، وإن للذين يتَقَّوُن المعاصِيَ لَحُسْنَ المُنْقَلَبِ.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} أي إذا جاؤوها لا يلحقهم ذُلُّ الحجاب، ولا كُلْفَةُ الاستئذان، تستقبلهم الملائكةُ بالترحاب والتبجيل. متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرة وشارب على ما يشتهون، وعندهم حورٌ عين قاصراتُ الطَّرْفِ عن غير أزواجهن، {أتراب} لِدَاتٌ مُستَوِيَاتٌ في الحُسْنِ والجمال والشكل. اهـ.

.تفسير الآيات (55- 64):

قوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت النفوس نزاعة للهوى ميالة إلى الردى، فكانت محتاجة إلى مزيد تخويف وشديد تهويل، قال تعالى متوعدًا لمن ترك التأسي بهؤلاء السادة في أحوال العبادة، مؤكدًا لما مضى من إيعاد العصاة وتخويف العتاة: {هذا} أي الأمر العظيم الذي هو جدير بأن يجعل نصب العين وهو أنه لكل من الفريقين ما ذكر وإن أنكره الكفرة، وحذف الخبر بعد إثباته في الأول أهول ليذهب الوهم فيه كل مذهب {وإن للطاغين} أي الذين لم يصبروا على تنزيلهم أنفسهم في منازلها بالصبر على ما أمروا به فرفعوا أنفسهم فوق قدرها، وتجاوزوا الحد وعلوا في الكفر به وأسرفوا في المعاصي والظلم وتجبروا وتكبروا فكانوا أحمق الناس {لشر مآب} أي مصير ومرجع، وأبدل منه أو بينه بقوله: {جهنم} أي الشديدة الاضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم.
ولما كان اختصاصهم بها ليس بصريح في عذابهم، استأنف التصريح به في قوله: {يصلونها} أي يدخلونها فيباشرون شدائدها.
ولما أفهم هذا غاية الكراهة لها وأنه لا فراش لهم غير جمرها، فكان التقدير: فيكون مهادًا لهم لتحيط بهم فيعمهم صليها، سبب عنه قوله: {فبئس المهاد} أي الفراش هي، فإن فائدة الفراش تنعيم الجسد، وهذه تذيب الجلد واللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب عاد عقوبة لهم ليريهم الله ما كانوا يكذبون به من الإعادة في كل وقت دائمًا أبدًا، كما كانوا يعتقدون ذلك دائمًا أبدًا جزاء وفاقًا عكس ما لأهل الجنة من التنعيم والتلذيذ بإعادة كل ما قطعوا من فاكهتها وأكلوا من طيرها، لأنهم يعتقدون الإعادة فنالوا هذه السعادة.
ولما قدم أن لأهل الطاعة فاكهة وشرابًا، وكان ما وصف به مأوى العصاة لا يكون إلا عذابًا، وكان مفهمًا لا محالة أن الحرارة تسيل من أهل النار عصارة من صديد وغيره قال: {هذا} أي العذاب للطاغين {فليذوقوه} ثم فسره بقوله: {حميم} أي ماء حار، وأشار بالعطف بالواو إلى تمكنه في كل من الوصفين فقال: {وغساق} أي سيل منتن عظيم جدًّا بارد أسود مظلم شديد في جميع هذه الصفات من صديد ونحوه وهو في قراءة الجماعة بالتخفيف اسم كالعذاب والنكال من غسقت عينه، أي سالت، وغسق الشيء، أي امتلأ، ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله، وفي قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد صفة كالخباز والضراب، تشير إلى شدة أمره في جميع ما استعمل فيه من السيلان والبرد والسواد.
ولما كان في النار- أجارنا الله منها بعفوه ورحمته- ما لا يعد من أنواع العقاب، قال عاطفًا على هذا، {وآخر} أي من أنواع المذوقات- على قراءة البصريين بالجمع لأخرى، ومذوق على قراءة غيرهما بالإفراد، وهو حينئذ للجنس، وأخبر عن المبتدأ بقوله: {من شكلة} أي شكل هذا المذوق ولما كان المراد الكثرة في المعذبين وهم الطاغون وفي عذابهم مع افتراقه بالأنواع وإن اتحد في جنس العذاب، صرح بها في قوله: {أزواج} أي هم أو هي أو هو، أي جنس عذابهم أنواع كثيرة.
ولما كان مما أفهمه الكتاب في هذا الخطاب أن الطاغين الداخلين إلى جهنم أصناف كثيرة، وكانت العادة جارية بأن الأصناف إذا اجتمعوا كانت محاورات ولاسيما إن كانوا من الطغاة العتاة، تحرك السامع إلى تعرف ذلك فقال تعالى مستأنفًا جوابه بما يدل على تقاولهم بأقبح المقاولة وهو التخاصم الناشىء عن التباغض والتدابر الذي من شأنه أن يقع بين الذين دبروا أمرًا فعاد عليهم بالوبال في أن كلًا منهم يحيل ما وقع به العكس على صاحبه، وذلك أشد لعذابهم: {هذا} أي قال أطغى الطغاة لما دخلوها أولًا كما هم أهل له لأنهم ضالون مضلون ورأوا جمعًا من الأتباع داخلًا عليهم: هذا {فوج} أي جماعة كثيفة مشاة مسرعون.