فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} لما ذكر ما للمتقين ذكر ما للطاغين.
قال الزجاج: {هَذَا} خبر ابتداء محذوف أي الأمر هذا فيوقف على {هذا} قال ابن الأنباري: {هذا} وقف حسن ثم تبتدىء {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} وهم الذين كذبوا الرسل.
{لَشَرَّ مَآبٍ} أي منقلب يصيرون إليه.
ثم بيّن ذلك بقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم.
ومنه مهد الصبي.
وقيل: فيه حذف أي بئس موضع المهاد.
وقيل: أي هذا الذي وصفت لهؤلاء المتقين، ثم قال: وإن للطاغين لشر مرجع فيوقف على {هذا} أيضًا.
قوله تعالى: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} {هَذَا} في موضع رفع بالابتداء وخبره {حَمِيمٌ} على التقديم والتأخير؛ أي هذا حميم وغساق فليذوقوه.
ولا يوقف على {فلْيَذُوقُوهُ} ويجوز أن يكون {هَذَا} في موضع رفع بالابتداء و{فَلْيَذُوقُوهُ} في موضع الخبر، ودخلت الفاء للتنبيه الذي في {هَذَا} فيوقف على {فَلْيَذُوقُوهُ} ويرتفع {حَمِيمٌ} على تقدير هذا حميم.
قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا فرفعهما على معنى هو حميم وغسّاق.
والفرّاء يرفعهما بمعنى منه حميم ومنه غسّاق وأنشد:
حتّى إذا ما أَضَاءَ الصُّبْحُ في غلَسٍ ** وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ

وقال آخر:
لها مَتَاعٌ وأَعْوانٌ غَدَوْنَ بِهِ ** قِتْبٌ وغَرْب إذا ما أُفْرغَ انْسَحَقَا

ويجوز أن يكون {هذَا} في موضع نصب بإضمار فعل يفسره {فَلْيَذُوقُوهُ} كما تقول زيدًا اضربه.
والنصب في هذا أولى فيوقف على {فَلْيَذُوقُوهُ} وتبتدىء {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} على تقدير الأمر حميم وغسّاق.
وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في {وغَسَّاق}.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {وغسَّاق} بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش.
وقيل: معناهما مختلف؛ فمن خفّف فهو اسم مثل عذاب وجوَاب وصوَاب، ومن شدّد قال: هو اسم فاعل نقل إلى فعّال للمبالغة، نحو ضرّاب وقتّال وهو فعّال من غَسَق يغسِق فهو غسّاق وغاسِق.
قال ابن عباس: هو الزمهرير يخوّفهم ببرده.
وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده.
وقال غيرهما.
إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحرِّه.
وقال عبد الله بن عمرو: هو قيح غليظ لو وقع منه شيء بالمشرق لأنتن من في المغرب، ولو وقع منه شيء في المغرب لأنتن من في المشرق.
وقال قتادة: هو ما يسيل من فروج الزناة ومن نَتْن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح والنَّتْن.
وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار.
وهذا القول أشبه باللغة؛ يقال: غَسَق الجرح يغسِق غسقا إذا خرج منه ماء أصفر؛ قال الشاعر:
إذا ما تَذَكَّرْتُ الحياةَ وطِيبهَا ** إليّ جَرَى دَمْعٌ من اللّيلِ غاسِقُ

أي بارد.
ويقال: ليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار.
وقال السدّي: الغسّاق الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم.
وقال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم، يجمع في حياض النار فيسقونه، والصديد الذي يخرج من جلودهم.
والاختيار على هذا {وغَسّاق} حتى يكون مثل سيّال.
وقال كعب: الغسّاق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي حُمَةٍ من عقرب وحيَّة.
وقيل: هو مأخوذ من الظلمة والسواد.
والغسق أوّل ظلمة الليل، وقد غَسقَ الليلُ يغسِق إذا أظلم.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن دَلْوًا من غساق يُهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا».
قلت: وهذا أشبه على الاشتقاق الأوّل كما بينا، إلا أنه يحتمل أن يكون الغساق مع سيلانه أسود مظلمًا فيصح الاشتقاقان.
والله أعلم.
قوله تعالى: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قرأ أبو عمرو: {وَأخَرُ} جمع أخرى مثل الكبرى والكُبَر.
الباقون: {وَآخَرُ} مفرد مذكر.
وأنكر أبو عمرو {وَآخَرُ} لقوله تعالى: {أَزْوَاجٌ} أي لا يخبر بواحد عن جماعة.
وأنكر عاصم الجحدريّ {وَأخَرُ} قال: ولو كانت {وَأُخَرُ} لكان من شكلها.
وكلا الردين لا يلزم والقراءتان صحيحتان.
{وَآخرُ} أي وعذاب آخر سوى الحميم والغساق.
{مِنْ شَكْلِهِ} قال قتادة: من نحوه.
قال ابن مسعود: هو الزمهرير.
وارتفع {وآخر} بالابتداء و{أَزْوَاجٌ} مبتدأ ثانٍ و{مِنْ شَكْلِهِ} خبره والجملة خبر {آخر}.
ويجوز أن يكون {وآخر} مبتدأ والخبر مضمر دل عليه {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} لأن فيه دليلًا على أنه لهم، فكأنه قال: ولهم آخر ويكون {مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} صفة لآخر فالمبتدأ متخصص بالصفة و{أَزْوَاجٌ} مرفوع بالظرف.
ومن قرأ {وَأُخرُ} أراد وأنواع من العذاب أُخَرُ، ومن جمع وهو يريد الزمهرير فعلى أنه جعل الزمهرير أجناسًا فجمع لاختلاف الأجناس.
أو على أنه جعل لكل جزء منه زمهريرًا ثم جمع كما قالوا: شابت مفارقه.
أو على أنه جمع لما في الكلام من الدلالة على جواز الجمع؛ لأنه جعل الزمهرير الذي هو نهاية البرد بإزاء الجمع في قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} والضمير في {شكْلِهِ} يجوز أن يعود على الحميم أو الغسّاق.
أو على معنى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ} ما ذكرنا، ورفع {أُخَرُ} على قراءة الجمع بالابتداء و{مِنْ شَكْلِهِ} صفة له وفيه ذكر يعود على المبتدأ و{أَزْوَاجٌ} خبر المبتدأ.
ولا يجوز أن يحمل على تقدير ولهم أخر و{مِنْ شَكْلِهِ} صفة لأخر و{أَزْوَاجٌ} مرتفعة بالظرف كما جاز في الإفراد؛ لأن الصفة لا ضمير فيها من حيث ارتفع {أَزْوَاجٌ} بالظرف ولا ضمير في الظرف، والهاء في {شكله} لا تعود على {أخر} لأنه جمع والضمير مفرد؛ قاله أبو علي.
و{أَزْوَاجٌ} أي أصناف وألوان من العذاب.
وقال يعقوب: الشكل بالفتح المثل وبالكسر الدل.
قوله تعالى: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: {هَذَا فَوْجٌ} يعني الأتباع والفوج الجماعة {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} أي داخل النار معكم؛ فقالت السادة: {لاَ مَرْحَبًا بِهِمْ} أي لا اتسعت منازلهم في النار.
والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد وغيره.
وهو في مذهب الدعاء فلذلك نصب؛ قال النابغة:
لاَ مَرْحَبًا بِغَدٍ ولاَ أَهْلًا بِهِ ** إنْ كَانَ تَفْرِيقُ الأَحِبَّةِ في غَد

قال أبو عبيدة العرب تقول: لا مرحبا بك؛ أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت.
{إِنَّهُمْ صَالُوا النار} قيل: هو من قول القادة، أي إنهم صالوا النار كما صليناها.
وقيل: هو من قول الملائكة متصل بقولهم: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} و{قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ} هو من قول الأتباع.
وحكى النقاش: إن الفوج الأوّل قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر، والفوج الثاني أتباعهم ببدر.
والظاهر من الآية أنها عامة في كل تابع ومتبوع.
{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أي دعوتمونا إلى العصيان {فَبِئْسَ القرار} لنا ولكم {قَالُواْ} يعني الأتباع {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا} قال الفراء: من سوّغ لنا هذا وسَنّه.
وقال غيره: من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى المعاصي {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النار} وعذابًا بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفًا.
وقال ابن مسعود: معنى عذابًا ضعفًا في النار الحيات والأفاعي.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار} [الأعراف: 38].
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} قوله تعالى: {وَقَالُواْ} يعني أكابر المشركين {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار} قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول أبو جهل: أين بلال أين صُهَيْب أين عَمّار أولئك في الفردوس! واعجبًا لأبي جهل! مسكين؛ أسلم ابنه عكرمة، وابنته جُوَيرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو؛ قال:
ونورًا أضاءَ الأرضَ شَرْقًا ومَغْرِبًا ** وموضِعُ رِجلِي مِنْهُ أَسْوَدُ مُظْلِمُ

{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} قال مجاهد: أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصر} فلم نعلم مكانهم.
قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا؛ اتخذوهم سخريًّا، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم.
وقيل: معنى {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصر} أي أهم معنا في النار فلا نراهم.
وكان ابن كثير والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي يقرؤون {مِنَ الأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ} بحذف الألف في الوصل.
وكان أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر يقرؤون {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بقطع الألف على الاستفهام وسقطت ألف الوصل؛ لأنه قد استغنى عنها؛ فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على {الأَشْرَارِ} لأن {اتَّخَذْنَاهُمْ} حال.
وقال النحاس والسجستاني: هو نعت لرجال.
قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن النعت لا يكون ماضيًا ولا مستقبلًا.
ومن قرأ: {أَتخذناهم} بقطع الألف وقف على {الأَشْرَارِ} قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب.
{أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل.
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضّل وهبيرة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: {سُخْرِيًّا} بضم السين.
الباقون بالكسر.
قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير.
وقد تقدّم.
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} {لَحَقٌّ} خبر إنّ و{تَخَاصُمُ} خبر مبتدأ محذوف بمعنى هو تخاصم.
ويجوز أن يكون بدلًا من حق.
ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر.
ويجوز أن يكون بدلًا من ذلك على الموضع.
أي إنّ تخاصم أهل النار في النار لحق.
يعني قولهم: {لاَ مَرْحبًَا بِكُمْ} الآية وشبهه من قول أهل النار. اهـ.

.قال الألوسي:

{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)} {هذا} قال الزجاج: أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو علي: أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكر.
وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبرًا محذوف المبتدأ، وجوز بعضهم كونه فاعل فعل محذوف أي مضي هذا وكونه مفعولًا للفعل محذوف أي خذ هذا، وجوز أيضًا كون ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلًا يبعده والتقدير أسهل منه، وقوله تعالى: {هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ} عطف على ما قبله، ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الاحتمالات جوابه سهل، وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضًا ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين، والطاغون هنا الكفار كام يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال: أي الذين طغوا علي وكذبوا رسلي، وقال الجبائي: أصحاب الكبائر كفارًا كانوا أو لم يكونوا، وإضافة {شَرُّ} إلى {مَئَابٍ} كإضافة {حُسْنُ} [ص: 49] إليه فيما تقدم، وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال: لقبح مآب هنا أو لبخير مآب فيما مضى لكن مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوفي في شرح الحماسة كذا قيل، وقيل إنه من الاحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد.