فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)} اسم الإِشارة {هذا} مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله.
والقول فيه كالقول في {هذا ذِكرٌ وإنَّ للمتقين لحُسنَ مئَابٍ} [ص: 49].
والتقدير: هذا شأن المتقين، أو هذا الشأن، أو هذا كما ذُكر.
وجملة {يَصْلَونَهَا} حال من {جَهَنَّمَ} وهي حال مؤكدة لمعنى اللام الذي هو عامل في الطاغين فإن معنى اللام أنهم تختصّ بهم جهنم واختصاصها بهم هو ذَوْق عذابها لأن العذاب ذاتي لجهنم.
والطاغي: الموصوف بالطغيان وهو: مجاوزة الحد في الكِبر والتعاظم.
والمراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبَّروا بعظمتهم على قبول الإِسلام، وأعرضوا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بكبر واستهزاء، وحكموا على عامة قومهم بالابتعَاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين وعن سماع القرآن، وهم: أبو جهل وأميةُ بن خلف، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، والعاصي بن وائل وأضرابهم.
والفاء في {فَبِئْسَ المِهَادُ} لترتيب الإِخبار وتسببه على ما قبله، نظير عطف الجمل بثُمّ وهي كالفاء في قوله تعالى: {فلم تقتلوهم} [الأنفال: 17] بعد قوله: {فلا تولوهم الأدبار في} سورة [الأنفال: 15].
وهذا استعمال بديع كثير في القرآن وهو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة ولم يكشف عنه في مغني اللبيب.
والمعنى: جهنم يصلونها، فيتسبب على ذلك أن نذكر ذَم هذا المقرّ لهم، وعبر عن جهنم ب {المِهَادُ} على وجه الاستعارة، شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد وهو فراش النائم كقوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد} [الأعراف: 41].
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} اسم الإِشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله: {هذا ما توعدون ليوم الحساب} [ص: 53] والقول فيه مثله.
وإشارة القريب لتقريب الإِنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله: {جهنَّم يصلونها} [ص: 56] من الصلي ومن معنى العذاب، أو الإِشارة إلى شرّ من قوله: {لَشَرَّ مئابٍ} [ص: 55].
و{حميم} خبر عن اسم الإِشارة.
ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيرِه من شكله، والمعنى: أن ذلك لهم لقوله: {وإنّ للطاغِينَ لشرَّ مَئابٍ} [ص: 55] فما فُصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والغَساق: قرأه الجمهور بتخفيف السين.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها.
قيل هما لغتان وقيل: غَسَّاق بالتشديد مبالغة في غَاسق بمعنى سائل، فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسمًا لأن الأسماء التي على زنة فَعَّال قليلة في كلامهم.
والغساق: سائل يسيل في جهنم، يقال: غَسَق الجُرح، إذا سال منه ماء أصفر.
وأحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يُسْقَوْنه كقوله: {بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب} [الكهف: 29].
وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب، وبذلك يومىء كلام الراغب.
وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه.
والأظهر: أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسمًا لشيء يشبه ما يغسِقَ به الجرح، ولذلك سمّي بالمهل والصديد في آيات أخرى.
وجملة {فَلْيَذُوقُوهُ} معترضة بين اسم الإِشارة والخبر عنه، وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو، والفاء فيه كالفاء في قوله: {فبئس المِهادُ} [ص: 56] وقد تقدمت آنفًا.
وموقع الجملة كموقع قوله: {فامنن أو أمسك} [ص: 39] كما تقدم آنفًا.
وقوله: {وءَاخَرُ} صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإِشارة بقوله: {هذا} وضمير {فليذوقوه} ووصفُ آخر يدل على مغاير.
وقوله: {مِن شَكلِهِ} يدل على أنه مغاير له بالذات وموافق في النوع، فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر.
والشَّكل بفتح الشين: المثل، أي المماثل في النوع، أي وعذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم والغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب والألم.
وأفرد ضمير {شَكلهِ} مع أن معاده {حَميمٌ وغسَّاقٌ} نظرًا إلى إفراد اسم الإِشارة، أو إلى إفراد مذوق المأخوذ من يذوقوه، فقوله: {مِن شكلهِ} صفة لآخر.
والأزواج: جمع زوج بمعنى النوع والجنس، وقد تقدم عند قوله: {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} في سورة [الرعد: 3].
والمعنى: وعذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة.
ولما كان اسمًا شائعًا في كل مغاير صحّ وصفه ب {أزواج} بصيغة الجمع.
وقرأ الجمهور: {وءَاخَرُ} بصيغة الإِفراد.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {وأُخَر} بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف، أي وأزواج أخر من شكل ذلك العذاب.
{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)} ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} [ص: 64]، وبه فسر قتادة وابن زيد، وجريانه بينهم ليزدادوا مقتًا بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة.
وأسلوب الكلام يقتضي متكلمًا صادرًا منه، وأسلوبُ المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية.
فالتقدير: يقولون، أي الطاغون بعضهم لبعض: هذا فوج مقتحم معكم، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أُقحم فيهم لَيسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا، وذلك ما دل عليه قوله: {أنتم قدمتموه لنا} [ص: 60] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا.
وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} [الأعراف: 38] إلى قوله: {بما كنتم تكسبون} في سورة [الأعراف: 39]، وقوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} في سورة [البقرة: 166]، وقوله: {وأَقْبَلَ بَعْضُهُم على بَعْضضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الآيات من سورة [الصافات: 27].
وأوضحُ من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية {إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهلِ النَّارِ} [ص: 64].
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين.
وجملة {هذا فوجٌ} إلى آخرها مقول القول المحذوف.
والفوج: الجماعة العظيمة من الناس، وتقدم في قوله: {ويوم نحشر من كل أمة فوجًا} في سورة [النمل: 83].
والاقتحام: الدخول في الناس، ومع مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون، وأن الفوج المقتحم أتباع لهم، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك.
وجملة: {لا مرحبًا بهم} معترضة مستأنفة لإِنشاء ذم الفوج.
و{لاَ مَرْحَبًا} نفيٌ لكلمةٍ يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد.
و{مرحبًا} مصدر بوزن المفعل، وهو الرُّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب، أي أتيت رحبًا، أي مكانًا ذا رحب، فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا: لا مرحبًا به، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة:
لا مرحبًا بِغَدٍ ولا أهلًا به ** إن كان تفريق الأحبة في غدِ

وذلك كما يقولون في المدح: حبّذا، فإذا أرادوا ذمًّا قالوا: لا حبّذا.
وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة:
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه ** إذا ذكرت ميَّ فلا حبّذا هيا

ومعنى الرحب في هذا كله: السعة المجازية، وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد، وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جريًا على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء.
وجملة {إنهم صَالُوا النَّارِ} خبر ثان عن اسم الإِشارة، والخبر مستعمل في التضجّر منهم، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم: {مقتحِم معكم لا مرحبًا بهم}.
{قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)} فسَمِعَهُم الأتباع فيقولون: {بل أنتم لا مرحبًا بكم} إضرابًا عن كلامهم.
وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرّد من حرف العطف، أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال: لاَ مرحبًا بِكم، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر.
و{بل} للإِضراب الإِبطالي لردّ الشتم عليهم وأنهم أولى به منهم.
وذكر ضمير المخاطَبين في قوله: {أنتُم لا مرحَبًا بكم} للتنصل من شتمهم، أي أنتم المشتومون، أي أولى بالشتم منا، وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإِبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصرًا ولا تقَوِّيًا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية، أي أنتم يقال لكم: لا مرحبًا بكم.
وإذا قد كان قول: مَرْحبًا، إنشاءَ دعاء بالخير، وكان نفيُه إنشاءَ دعاء بضده، كان قوله {بهم} بيانًا لمن وُجّه الدعاء لهم، أي إيضاحًا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين.
قال في الكشاف: و{بهم} بيان لمدعوّ عليهم.
وقال الهمذاني في شرحه للكشاف: يعني: البيان المصطلح، كأن قائلًا يقول: بمن يحصل هذا الرحب؟ فيقول: بهم.
وهذا كما في {هيتَ لك} [يوسف: 23].
يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين.
وهذا المعنى أغفله ابن هشام في معاني الباء.
وأشار الهمذاني إلى أنه متولد من معنى السببية.
والأحسن عندي أن يكون متولدًا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإِخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.
وجملة {أنتم قدتمتوهُ لنا} علة لقلب سبب الشتم إليهم، أي لأنكم قدمتم العذاب لنا، فضمير النصب في {قدَّمْتُمُوهُ} عائد إلى العذاب المشاهد، وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ، مثل {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32].
ووقوع {أنتُمْ} قبل {قدَّمْتُمُوهُ} المسندِ الفعلي يفيد الحصر، أي لم يُضلنا غيركم فأنتم أحقّاء بالعذاب.
والتقديم: جعل الشيء قُدَّام غيره، قال تعالى: {ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم} [آل عمران: 181، 182].
فتقديم العذاب لهم جعله قُدامهم، أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم.
وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببًا في تقديم العذاب لأتباعهم بإِغوائِهم وكان العذاب جزاءً عن الغواية.
وجُعل العذاب مقدمًا وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب، وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله: {قدَّمْتُمُوهُ} مجازان عقليان.
وقوله: {فَبِئْسَ القَرَارُ} موقعه كموقع قوله آنفًا {فبئس المهاد} [ص: 56].
وهو ذَم لإِقامتهم في جهنم تشنيعًا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه.