فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما شاء مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس بإله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلهًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وما قيل في برهان التمانع سؤالًا وجوابًا يقال هنا، وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى، وللاقتصار على وصف الإنذار صريحًا فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا، وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميمًا له وإيضاحًا لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه، والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى: {أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا} [ص: 5] فافهم.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)} {قُلْ} تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لابد من الاعتناء به أمرًا وائتمارًا {هُوَ} أي ما أنبأتكم به من كوني رسولًا منذرًا وأن الله تعالى واحدًا لا شريك له {عَذَابٌ عظِيمٌ} خبر ذو فائدة عظيمة جدًّا لا ريب فيه أصلًا.
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة.
واستظهر بعض الأجلة أن {هُوَ} للقرآن كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، واستشهد بآخر السورة وقال: إنه يدخل ما ذكر دخولًا أوليًا، واختار كون هذه الجملة استئنافًا ناعيًا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول؛ وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما في أول السورة من قوله تعالى: {والقرءان ذِى بَلِ الذين كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1، 2] جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} الخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضًا كذلك؛ وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدًا لإرشاد الطريق وتذكيرًا للباقي وتسلقًا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضًا طريًا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفًا، فلا يقال: إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميمًا لذلك.
وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيًا من عند الله تعالى متلازمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو من صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى: {قُلْ} [ص: 67] فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روى عن ابن عباس ومن معه، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1، 2] وقيل: ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام، وقيل تخاصم أهل النار، وعدى العلم بالباء نظرًا إلى معنى الإحاطة، والملأ الجماعة الإشراف لأنهم يملؤن العيون رواء والنفوس جلالة، وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني {الاعلى} والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ إلا على وقت اختصامهم، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملأ إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضًا من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضًا، وقيل: إذ بدل اشتمال من {الملأ} أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30] الخ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال، وضمير الجمع للملأ.
وحكى أبو حيان كونه لقريش وابتعده وكأن في {يَخْتَصِمُونَ} حينئذ التفاتًا من الخطاب في {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى الله عليه وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم، وقوله تعالى: {إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرًا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينًا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئًا عن ثبوته الآن، ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه وسلم بشيء من مباديه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتمًا فجعل ذلك أمرًا مسلم الثبوت غنيًا عن الاخبار به قصدًا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له، فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقًا أو ما يعمه وغيره، فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدًا إلى المصدر المفهوم من {يُوحَى} أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني. إلخ.
وجوز أيضًا كون الجار والمجرور نائب الفاعل {وَإِنَّمَا} على تقدير اللام، قال في الكشف: ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك: لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد.
وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقامًا مقام الفاعل، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا لأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنًا وإما التزامًا أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى، وما ذكر أولًا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيًا عن إدراك اللطائف.
وقرأ أبو جعفر {إِنَّمَا} بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلى إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمر عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفًا، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلًا فتدبر ولا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} هذا راجع إلى قوله: {وقال الكافرونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ} [ص: 4] إلى قوله: {أءُنزِلَ عليهِ الذكرُ من بيننا} [ص: 8]، فلما ابتدرهم الجواب عن ذلك التكذيب بأن نظَّر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الأنبياء الذين صبروا، واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه فأمره الله أن يقول: {إنمَّا أنا مُنذِرٌ} مقابل قولهم: {هذا ساحِرٌ كذَّابٌ} وأن يقول: {ما من إله إلا الله} مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم: {أجَعَلَ الآلهة إلها واحدًا} [ص: 5] فالجملة استئناف ابتدائي.
وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول {ما من إله إلا الله} إماء إلى رد إنكارهم.
وذكر صفة {القهّار} تعريض بتهديد المشركين بأن الله قادر على قهرهم، أي غلبهم.
وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} في سورة [الأنعام: 18].
{وإتباع ذلك بصفة رَبُّ السمواتتِ والأرضِ وما بينهما} تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها.
ووصف {العزيزُ} تمهيد للوصف ب {الغَفَّارُ} أي الغفّار عن عزّة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو.
والمقصود من وصف {الغفَّارُ} هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف {القهَّارُ} لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جريًا على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)} إعادة الأمر بالقَول هنا مستأنَفًا.
والعدولُ عن الإِتيان بحرف يعطف المقول أعني {هُوَ نَبؤٌا عَظِيمٌ} على المقول السابق أعني {أنا مُنذِرٌ} [ص: 65]، عدول يشعر بالاهتمام بالمقول هنا كي لا يؤتى به تابعًا لمقولٍ آخر فيضعف تصدي السامعين لوعيه.
وجملة {قُلْ هو نبؤا عظيمٌ أنتُم عنه مُعرضونَ} يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالًا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان، فيكون ضمير {هُوَ} ضميرَ شأن يفسره ما بعده وما يُبيّن به ما بعده من قوله: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين} [ص: 71] جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقًا لتلقّيها فيكون المراد بالنبأ نبأَ خَلق آدم وما جرى بعده، ويكون ضمير {يَخْتصِمُونَ} عائدًا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة.
ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلَّغ إليه من الملائكة أمرَ الله بالسجود لآدم، فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعُدّ منهم قبل أن يطرد من السماء.
ويجوز أن تكون جملة {قُلْ هو نبؤا عظيمٌ} الخ تذييلًا للذي سبق من قوله: {وإنَّ للمتَّقينَ لحُسنَ مئابٍ} [ص: 49] إلى هنا، تذييلًا يشعر بالتنويه به وبطلب الإِقبال على التدبر فيه والاعتبار به.
وعليه يكون ضمير {هُوَ} ضميرًا عائدًا إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أُتِي لتعريفه بضمير المفرد.
والمراد بالنبأ: خبر الحشر وما أُعد فيه للمتقين من حسن مآب، وللطاغين من شر مآب، ومن سوء صحبة بعضهم لبعض، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب، وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يَعدّونهم من الأشرار.
ووصف النبأ ب {عَظِيمٌ} تهويل على نحو قوله تعالى: {عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون} [النبأ: 13].
وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله: {فساد كبير} [الأنفال: 73]، فتم الكلام عند قوله تعالى: {أنتم عنه معرضون}.
فتكون جملة {ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى} إلى قوله: {نَذِيرٌ مبينٌ} استئنافًا للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44]، ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن.
وتكون جملة {إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا} [ص: 71] إلى آخره استئنافًا ابتدائيًا.
وعلى هذا فضمير {يختصمون} عائد إلى أهل النار من قوله: {تخاصُمُ أهللِ النارِ} [ص: 64] إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى.
والمعنى: ما كان لي من علم بعالَم الغيب وما يجري فيه من الإِخبار بما سيكون إذ يَختصم أهل النار في النار يوم القيامة.
وعلى كلا التفسيرين فمعنى {أنتُم عنهُ مُعْرِضُونَ} أنهم غافلون عن العلم به فقد أُعلموا بالنبأ بمعناه الأول وسيَعلَمون قريبًا بالنبأ بمعناه الثاني.
وجيء بالجملة الاسمية في قوله: {أنتُم عنه معرِضُونَ} لإِفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم، فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنُه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخِرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارْعَوَوْا عن كفرهم.
وأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني، فتأويلُ تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاهُ من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصدًا للشَّرّ بهم.
ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر قِصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود، فإن هذه السورة في ترتيب نزول سور القرآن لا يُوجد ذكر قصة آدم في سورة نزلت قبلَها.
فذلك وجهُ التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرُها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه.
وأيًّا مَّا كان فقوله: {أنتُم عنْهُ مُعرِضُونَ} توبيخ لهم وتحميق.
وجملة {ما كَانَ لي من علممٍ بالملأ الأعلى إذ يختصمونَ} اعتراض إبلاغ في التوبيخ على الإِعراض عن النبأ العظيم، وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحىً به من الله وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلى عمله لولا وحي الله إليه به.
وذكر فعل {كان} دال على أن المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44] وقوله: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} [القصص: 44].
والباء في قوله: {بالمَلأ الأعلى} على كلا المعنيين للنبأ، لتعدية {عِلم} لتضمينه معنى الإِحاطة، وهو استعمال شائع في تعدية العلم.
ومنه ما في حديث سؤال الملكين في الصحيح فيقال له: ما علمك بهذا الرجل.
ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية، أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى، أي ما كنت حاضرًا في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأم} [القصص: 44].
والملأُ: الجماعة ذات الشأن، ووصفه ب {الأعلى} لأن المراد ملأُ السماوات وهم الملائكة ولهم علوّ حقيقي وعلوّ مجازيّ بمعنى الشرف.
و{إذْ يَخْتَصِمُونَ} ظرف متعلق بفعل {ما كانَ لي من عِلم} أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين، أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء.
والتعبير بالمضارع في موضع المضيّ لقصد استحضار الحالة، أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى، أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر، والمضارع على أصله من الاستقبال.