فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما تم ما أراد من الدليل على أن ما ذكره لهم نبأ عظيم هم عنه معرضون بما أخبر به من الغيب مع ما له من الإعجاز، فثبت بذلك ما اقتضى أنه صادق في نسبته إلى الله تعالى، وختم بالتحذير من اتباع إبليس، أمره بالبراءة من طريقه وأن ينفي عن نفسه ما قد يحمل على التقول بقوله: {قل} أي لأمتك: {ما أسئلكم} سؤالًا مستعليًا، وعلق به لا بأجر قوله: {عليه} أي على التبليغ والإنذار مما أنتم متعرضون له من الهلاك بالإعراض، فأداة الاستعلاء للاحتراز عن سؤال المودة في القربى وحسن الاتباع فإنهما مسؤولان وهما روح الدين، ولكن سؤالهما ليس مستعليًا على الإبلاغ بحيث إنهما لو انتفيا انتفى، وأعرق في النفي بقوله: {من أجر} أي فيكون لكم في الرد شبهة {وما أنا من المتكلفين} أي المتحلين بما ليسوا من أهله من قول ولا فعل، الذين يكلفون أنفسهم تزوير الكلام والتصنع فيه وترتيبه على طريق من الطرق بنظم أو نثر سجع أو خطب أو غير ذلك، أو وضع أنفسهم في غير مواضعها، كما فعل إبليس، لست منهم بسبيل ولا أعد في عدادهم بوجه، لا أفعل أفعالهم ولا أحبهم ولا أتعصب لهم، فهو أبلغ من وما أنا متكلفًا قد عرفتموني طول عمري كذلك، ومن المعلوم أن ذلك لو كان في غريزتي لما كففت عنه طول زماني النمو من الصبي والشباب اللذين توجد فيهما الغرائز ولا توجد بعدهما، فإذا ثبت أن ذلك لم يكن لي إذ ذاك ثبت أنه متعذر بعده، لما تقرر من أنه لا توجد غريزة بعد الوقوف عن النمو في سن الثلاث والأربعين، فإذا علم أني لست كذلك علم أني مأمور بما أنا فيه من القول والفعل، فأنا من المكلفين لا المتكلفين، فكل من قال أو فعل ما لم يؤمر به فهو متكلف، وروى الثعلبي بسنده من حديث سلمة بن نفيل رضى الله عنه مرفوعًا والبيهقي في الشعب من قول علي بن أرطاة وأبو نعيم في الحلية من قول وهب: علامة المتكلف ثلاث: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم.
ولما أثبت المقتضيات لأنه من عند الله وأزال الموانع، بين حقيقته التي لا يتعداها إلى ما نسبوه إليه بقوله: {إن} أي ما {هو إلا ذكر} أي عظة وشرف {للعالمين} أي كلهم يفهم كل فرد ما تحتمله قواه ذكيًا كان أو غبيًا على ما هو عليه من العلو الذي لا يدانيه فيه كلام بخلاف الشعر والكهانة التي محطها السجع والكذب في الإختبار ببعض المغيبات، فإنهما مع سفول رتبتهما لا يفهمهما من العالمين إلا ذاك وذاك.
ولما كان التقدير: أنا عالم بذلك، عطف عليه قوله جوابًا لقسم: {ولتعلمن} أي أنتم أيضًا {نبأه} أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه وعنه من الأخبار العظيمة وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة وختامهم بخليفة من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة، وكثرتكم تصير إلى قل، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض على يد ابنه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي وأنصاري وأشياعي، وترك الجار إعلامًا باستغراق العلم لزمان البعد فقال: {بعد حين} أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم وفي الآخرة مطلقًا، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم، وجمع فيه من شريف الرسوم، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان، وإلى أن يفنى كل فان، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران، فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكرًا ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد، فانعطف الآخر على الأول، واتصل به أحسن اتصال وأجمل، ونظر إلى أول الزمر أعظم نظر وأكمل، فللّه در هذا الانتظام، فهو لعمري أضوأ من شمس الضحى وأتم من بدر التمام، فسبحان من أنزله و- أجمله وفصله، وفضله وشرفه وكرمه- والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى: {فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منك وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم وحمزة {فالحق} بالرفع {والحق} بالنصب، والباقون بالنصب فيهما.
أما الرفع فتقديره فالحق قسمي.
وأما النصب فعلى القسم، أي فبالحق، كقولك والله لأفعلن.
وأما قوله: {والحق أَقُولُ} انتصب قوله: {والحق} بقوله: {أَقُولُ}.
المسألة الثانية:
قوله: {مِنكَ} أي من جنسك، وهم الشياطين {وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من ذرية آدم، فإن قيل قوله: {أَجْمَعِينَ} تأكيد لماذا؟ قلنا: يحتمل أن يؤكد به الضمير في {مِنْهُمْ} أو الكاف في {مِنكَ} مع من تبعك، ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحدًا.
المسألة الثالثة:
احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول: أنه تعالى قال في حق إبليس: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين} فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذبًا وهو محال، فكان صدور الإيمان منه محالًا مع أنه أمر به والثاني: أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فالله تعالى علم منه أنه يغويهم، وسمع منه هذه الدعوى، وكان قادرًا على منعه عن ذلك، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضيًا به، فإن قالوا: لعل ذلك المنع مفسد، قلنا: هذا قول فاسد، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال، ويخلص بني آدم عن الضلال، وهذا عين المصلحة الثالث: أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع: أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين، وأن يميت إبليس والشياطين، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس: أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليف بما لا يطاق، والله أعلم.
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة، وذلك لأنه تعالى ذكر طرقًا كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين، ثم قال عند الختم: هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي، وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أو باطل.
أما الداعي وهو أنا.
فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجرًا ومالًا، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال ألبتة، وكان من الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان بعيدًا عن الدنيا عديم الرغبة فيها، وأما كيفية الدعوة فقال: وما أنا من المتكلفين، والمفسرون ذكروا فيه وجوهًا، والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته، فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولًا: ثم أدعوكم ثانيًا: إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به، يقوي ذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} وأمثاله، ثم أدعوكم ثالثًا: إلى الإقرار بكونه موصوفًا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعًا: إلى الإقرار بكونه منزهًا عن الشركاء والأضداد، ثم أدعوكم خامسًا: إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان، التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها، ثم أدعوكم سابعًا: إلى الإقرار بالبعث والقيامة: {لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31] ثم أدعوكم ثامنًا: إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، فهذه الأصول الثمانية، هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى، ودين محمد صلى الله عليه وسلم وبدائه العقول، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها.
بل كل عقل سليم وطبع مستقيم، فإنه يشهد بصحتها وجلالتها، وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} ولما بين هذه المقدمات قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها، فستعلمون بعد حين أنكم كنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب، والله أعلم.
قال المصنف رحمة الله عليه: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس في آخر الثلاثاء الثاني من شهر ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة، والحمد لله على آلائه ونعمائه.
والصلاة على المطهرين من عباده في أرضه وسمائه، والمدح والثناء كما يليق بصفاته وأسمائه، والتعظيم التام لأنبيائه وأوليائه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بِنَاءُ ك ل ف فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، وَقَدْ غَلِطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَكُلُّ إلْزَامٍ مَشَقَّةٌ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشَقَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى مَا أُلْزِمُ نَفْسِي مَا لَا يَلْزَمُنِي، وَلَا أُلْزِمُكُمْ مَا لَا يَلْزَمُكُمْ، وَمَا جِئْتُكُمْ بِاخْتِيَارِي دُونَ أَنْ أُرْسِلْت إلَيْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ هَارُونَ الْبَلَدِيُّ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَسَارَ لَيْلًا، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، وَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ».
وَهَذَا بَيَانُ سُؤَالٍ عَنْ وُرُودِ الْحَوْضِ السِّبَاعُ، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا غَالِبًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى حَالِ الْمَاءِ فِي لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَكْسِبُهُ فِي دِينِهِ شَكًّا أَوْ إشْكَالًا فِي عَمَلِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَكُمْ: إذَا جَاءَ السَّائِلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَوَجَدْتُمْ لَهُ مَخْلَصًا فِيهَا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَخْلَصًا فَحِينَئِذٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تَصَرُّفِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّتِهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ} هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة برفع الأول.
وأجاز الفرّاء فيه الخفض.
ولا اختلاف في الثاني في أنه منصوب ب {أقول} ونصب الأوّل على الإغراء أي فاتبعوا الحق واستمعوا الحق، والثاني بإيقاع القول عليه.
وقيل: هو بمعنى أُحِقّ الحقّ أي أفعله.
قال أبو علي: الحق الأوّل منصوب بفعل مضمر أي يحق الله الحق، أو على القسم وحذف حرف الجر؛ كما تقول: الله لأفعلنّ؛ ومجازه: قال فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه.
{والْحَقَّ أَقُولُ} جملة اعترضت بين القسم والمقسم عليه، وهو توكيد القصة، وإذا جعل الحق منصوبًا بإضمار فعل كان {لأملأنّ} على إرادة القسم.
وقد أجاز الفرّاء وأبو عبيد أن يكون الحق منصوبًا بمعنى حقًا {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} وذلك عند جماعة من النحويين خطأ؛ لا يجوز زيدًا لأضربنّ؛ لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها فلا يعمل فيه.
والتقدير على قولهما لأملانّ جهنم حقًّا.
ومن رفع {الحقّ} رفعه بالابتداء؛ أي فأنا الحقُّ أو الحقُّ مني.
رويا جميعًا عن مجاهد.
ويجوز أن يكون التقدير هذا الحقّ.
وقول ثالث على مذهب سيبويه والفراء أن معنى فالحقّ لأملأن جهنم بمعنى فالحق أن أملأ جهنم.
وفي الخفض قولان وهي قراءة ابن السَّمَيْقَع وطلحة بن مُصَرِّف: أحدهما أنه على حذف حرف القسم.
هذا قول الفراء قال كما يقول: الله عز وجل لأفعلنّ.
وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلطه فيه أبو العباس ولم يُجِز الخفض؛ لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر أن تكون الفاء بدلًا من واو القسم؛ كما أنشدوا:
فمثلِكِ حُبْلَى قد طَرَقْتُ ومُرْضِع

{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ} أي من نفسك وذريتك {وَمِمَّن تَبِعَكَ} من بني آدم {أَجْمَعِينَ}.
قوله تعالى: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي من جُعل على تبليغ الوحي وكنى به عن غير مذكور.
وقيل هو راجع إلى قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8].
{وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي لا أتكلف ولا أتخرص ما لم أومر به.
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف؛ فإن قوله لا أعلم عِلمٌ، وقد قال الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين}.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات ينازع مَن فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم» وروى الدَّارَقُطْنِي من حديث نافع عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فسار ليلًا فمروا على رجل جالس عند مَقْرَاة له، فقال له عمر: يا صاحب المَقْرَاة أوْلَغت السباع الليلة في مَقْرَاتك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا صاحب المَقْرَاة لا تخبره هذا متكلِّف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» وفي الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وقد مضى القول في المياه في سورة الفرقان.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} يعني القرآن {لِّلْعَالَمِينَ} من الجن والإنس.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} أي نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق {بَعْدَ حِينٍ} قال قتادة: بعد الموت.
وقاله الزجاج.
وقال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة.
وقال الفراء: بعد الموت وقبله.
أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول: {بَعْدَ حِينٍ} أي في المستأنف أي إذا أخذتكم سيوف المسلمين.
قال السّدي: وذلك يوم بدر.
وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
وسئل عكرمة عمن حلف ليصنعن كذا إلى حين.
قال: إن من الحين ما لا تدركه كقوله تعالى؛ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} ومنه ما تدركه؛ كقوله تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] من صرام النخل إلى طلوعه ستة أشهر.
وقد مضى القول في هذا في البقرة وإبراهيم والحمد لله. اهـ.