فصل: مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل اللّه وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن لكل إنسان نفسين نفس بها الحياة تفارقه عند الموت فتزول الحياة بزوالها، ونفس بها التمييز تفارقه عند النوم ويبقى معها التنفس في الجسد فقط دون تصرف أو تمييز.
فيعلم من هذا أن هناك نفسا وروحا فتخرج النفس عند النوم وتبقى الروح ويخرجان معا عند الموت، ومن قال إن الروح هي التي تخرج عند النوم والنفس هي الباقية في الجسد مع شعاع الروح وبها يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت إلى جسدها بأسرع من لحظة، استدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم:
إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وقد أوضحنا هذا البحث بصورة مسهبة في تفسير الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها أي ما يتعلق بالرؤيا فعليك بمراجعة الآية 5 من سورة يوسف المارة ففيها ما ترشدك إلى ما تريد ويكفيك عن غيره، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بلا إذن منه ولا سلطان لهم به عليه {شُفَعاءَ} يشفعون لهم عندنا بزعمهم، فيا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء الجهلة أتتخذونها شفعاء بادى الرأي {أَ وَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} من أمرها ولا من غيرها {وَلا يَعْقِلُونَ 43} ماهيتها كما لا يعلمون عبادتكم لهم ولا يفقهونها أتتخذونها عبثا وجهلا {قُلْ} يا أكمل الرسل لهؤلاء الضلال إن هذه الأوثان لا يصلحون للشفاعة لعدم علمهم بها وإن الشفاعة الحقيقية المرجو نفعها هي {لِلَّهِ} وحده لا يملكها أحد دونه ولا يقوم بها أحد إلا بإذنه وإلا لمن يرضاه اللّه فتكون {الشَّفاعَةُ} كلها {جَمِيعًا} له وحده كذلك {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وحده لا يشاركه فيهما أحد ولا يرزق من فيهما غيره وإن ما يملكه الناس من أجزاء الأرض فهو استعارة لأجل مسمى عنده {ثُمَّ إِلَيْهِ} أيها الناس كلكم وما تملكون {تُرْجَعُونَ 44} في الآخرة ثم بين تعالى بيانه سفه لكفرة بقوله جل قوله {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} نفرت واستكبرت وانقبضت وأنفت {قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} كأبي جهل والوليد بن المغيرة وصفوان وأبيّ وأضرابهم لأن الآية عامة واكفهرّت غمّا وغيظا فظهر على أديم وجوههم غبرة وقترة وعلى عيونهم ظلمة من عظيم انقباض أرواحهم.
وهذه الآية على حد قوله تعالى: {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا} الآية 46 من الإسراء في ج 1 فراجعها {وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} كاللات والعزى وغيرهما من الأوثان {إِذا هُمْ} أي أولئك المشمئزين {يَسْتَبْشِرُونَ 45} فرحا لافتتانهم بها فتنبسط وجوههم وتتهلل ويعلوها البشر لكثير ما ملئت قلوبهم من السرور والابتهاج بذكرها فيا حبيبي {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وصف نفسه جلت وعلت بكمال القدرة ثم نعتها بكمال العلم فقال {عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} السر والعلانية {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ} المؤمنين والكافرين {فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 46} من أمر دينك وتوحيدك.
يفيد هذا الأمر الإلهي العظيم جنوح حضرة الرسول إلى الدعاء والالتجاء إليه تعالى مما قاساه من نصب قومه في دعوتهم له وما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد وبيان حالهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة، وفيه تسلية له ومعلومية جهده وجده وبذل وسعه وسعيه عند ربه وتعليم لعباده كلهم بالالتجاء إليه فيما يهمهم وما لا يهمهم، ودعاؤه بأسمائه الحسنى، لأن أسماءه تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته بغيرها راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تجد ما سمى اللّه به نفسه ورسوله منها.
سئل الربيع بن خيثم عن قتل الحسين رضي اللّه عنه فتأوه وتلا هذه الآية، وعليه فإذا ذكر لك أيها القارئ شيء مما جرى بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم، فاقرأ هذه الآية فإنها من الآداب التي ينبغي أن تحفظ.
روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي اللّه عنها بأي شيء كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل؟ قالت:
كان إذا قام الليل افتتح صلاته قال: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من منقول وغيره {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وطلب منهم به فداء أنفسهم من عذاب اللّه {لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} وهذا من ضرب المحال حيث لا يقبل الفداء، ويستحيل أن يكون لهم شيء من الأرض باستحالة وجود مثله لأن أحدا يوم القيامة لا يملك مثقال ذرة وإنما هذا من قبيل زيادة التحسر والتأسف والندم والأسى لما يشاهدونه من الأهوال المحيطة بهم المشار إليها بقوله الفصل {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} العالم بخفايا الأمور أشياء {ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} بها ولا يظنونها ولا تخطر ببالهم أنه نازل بهم ولا يتوقعونه لأنه فوق التخمين والحسبان وحديث النفس.
ونظير هذه الآية التي أوعد بها الكافرون ما وعد اللّه به المؤمنين هي قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} الآية 17 من سورة السجدة الآتية، ومن هذا القبيل قوله صلّى اللّه عليه وسلم في صفة ثواب أهل الجنة: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
هذا وبعد أن أظهر اللّه لهم أنواع العقاب عن سيئات لم يكونوا يتصورونها أنها مستحقة للعذاب أظهر لهم عقابا أشد عن سيئات يعلمونها فقال جل قوله {وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} من الشرك به وتكذيب رسله وجحد ما جاؤهم به وبان لهم خيبة ظنهم بشفاعة الأوثان فذهلوا من فظاعته {وَحاقَ} أحاط {بِهِمْ} من كل جوانبهم سوء {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 48} في الدنيا فيفعلونه ولا يلقون له بالا إلا السخرية والاستهزاء.
قال تعالى: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ} من مرض وفقر وشدة {دَعانا} وحدنا لإزالته {ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا} بعد إجابة دعائه وإزاحة بلائه {قالَ} هذا جواب إذا ولذلك فلا يحسن الوقف على كلمة {مِنَّا} بل على {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} من اللّه بأني أهل له كما قال قارون قبله راجع الآية 78 من سورة القصص في ج 1 وقد ذكر الضمير هنا في أوتيته مع أنه عائد للنعمة بالنظر للمعنى، أي شيئا أو قسما من الإنعام {بَلْ هِيَ} النعمة التي أوتيها مع كفره وعصيانه {فِتْنَةٌ} نقمة لا نعمة في الحقيقة بل هي استدراج وامتحان ليختبرك أيها الإنسان أتشكرها فتكون نعم حقيقية أو تكفرها فتكون نقمة بحتة، وما قرىء بل فتنة وفاقا لضمير أوتيته ليست بشيء، لما فيها من نقص كلمة هي، ولا يجوز نقص شيء من كتاب اللّه {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 45} أنها فتنة وبلاء ومحنة.
وجاء العطف بالفاء لأن قوله {فَإِذا مَسَّ} إلخ مسبب عن قوله {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} إلخ، وقد وقع أول هذه السورة مثله إلا أن العطف كان بالواو فيكون غير مسبب عما قبله كما هنا وهذه الآية عامة.
وما جاء أن المراد بالإنسان هو حذيفة بن المغيرة فعلى فرض صحة نزولها فيه لا يقيدها لأن سبب النزول لا يكون سببا للقيد في الآيات العامة، قال تعالى إن هؤلاء الكفرة لم ينفردوا في هذه المقالة وإنما {قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مثل قارون وأضرابه {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 50} من متاع الدنيا ولم يأخذوا معهم منه شيئا للآخرة البتة {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي عقابه ووباله وخسف بهم وبأموالهم راجع الآية 78 من سورة هود المارة من قصة قوم لوط {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ} قومك يا محمد الذين قالوا مقالتهم تلك {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أيضا إذا أصروا عليها ولم يتوبوا حتى ماتوا، فيحين الأجل المقدر لإنزال العذاب بهم مثلهم {وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ 51} لنا ولا يستطيعون الإفلات منا، فلا يفوتهم عذابنا، لأن قدرتنا غير عاجزة عنهم، ولا مهرب هناك.
وهذه الآيات المدنيات الثلاث، قال تعالى: {أَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} يضيق على من يشاء بلى إنهم يعلمونه ولكن لا يعرفون حكمته {إِنَّ فِي ذلِكَ} البسط والتقتير لآيات دالات على حكمتنا {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52} بنا ويعون مرادنا وذلك أن اللّه تعالى يعطي من يشاء لا لكرامته وتقواه وعلمه، ويحرم من يشاء لا لإهانته وعصيانه وجهله، وقيل في المعنى:
كم من أديب فهيم عقله ** مستكمل العلم مقل عديم

ومن جهول مكثر ماله ** ذلك تقدير العزيز العليم

فمن علم أن هذا التقسيم جاء من اللّه على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة علم فساد قول ابن الراوندي المار ذكره في الآية 36 من سورة سبأ المارة وبطلان قول من قال إن السعد والنحس بسبب النجم الطالع عند ولادة الإنسان السعيد أو المشئوم، لأن الساعة التي ولد فيها السلطان والمثري ولد فيها أناس كثيرون فلم لم يساعدهم الحظ بمقتضى طالعهم كما صار لذينك، وقيل في المعنى:
فلا السعد يقضي به المشتري ** ولا النحس يقضي علينا زحل

ولكنه حكم رب السماء ** وقاضي القضاة تعالى وجل

قال تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} بتغاليهم في المعاصي وإفراطهم في اللذات وتفريطهم بأمور الآخرة وإعراضهم عن ربهم {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} التي وعدها التائبين من عباده الراجعين إليه وغيرهم، فهي واسعة لأكثر ما تتصورونه ولا تضيق عما أنتم عليه وغيركم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} بالعفو عنها عدا الشرك لورود النص باستثنائه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} الآيتين 48- 116 من سورة النساء في ج 3 {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53} بعباده يغفر ما كان منهم ويكشف ما يهمهم ويستر ما يشينهم صغرت هذه الذنوب أو كبرت فهي في جنب عفو اللّه لا شيء.

.مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل اللّه وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى:

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن أناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنى والشرب وهنك الحرمات كلها فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا لما عملناه كفّارة فنزلت الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان المارة في ج 1، وهي {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} إلى قوله {فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا، ونزلت هذه الآية المفسرة أيضا- أخرجه النسائي- وعنه قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي اللّه عنه يدعوه إلى الإسلام رغبة بنشر دين اللّه وشفقة على عباده مع أنه قاتل عمه وأعز الناس عليه يومئذ لشدة حرصه على إقامة هذا الدين جزاه اللّه عنا خيرا ووفق أمته لاتباعه، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟
فأنزل اللّه {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا} الآية من سورة الفرقان أيضا، فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟ فأنزل اللّه آيتي النساء المذكورتين آنفا، فقال وحشي أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي أم لا؟ فأنزل اللّه هذه الآية المفسرة، فقال وحشي نعم فجاء وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه الحادثة أولى بأن تكون سببا للنزول لأنها مدنية والحادثة مدنية فتكون أليق بسبب النزول من تلك، وإن ما بعدها يجوز أن يكون سببا للنزول لأن الآية الواحدة قد تكون لحوادث كثيرة متوافقة، وهو ما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: نزلت في عياش ابن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل اللّه من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا الصرف التوبة والنافلة والعدل الفدية والفريضة قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به في الدنيا، فأنزل اللّه هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب بيده وبعث بها إلى عياش ورفقائه فأسلموا جميعا وهاجروا، فقال ابن عمر كنا معشر أصحاب رسول اللّه نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} الآية 34 من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا، فقلنا الكبائر والفواحش، قال لكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك، فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وعن أنس رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: قال اللّه تعالى عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
- أخرجه الترمذي- والعنان بفتح العين ما بدا لك من السماء، واعنانها نواصيها، والقراب بضم القاف الملء أي بملء الأرض، واللّه أكرم وأكبر من ذلك، وقدمنا ما يخص هذا في الآية 160 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 31 من سورة الشورى الآتية فراجعها ففيها ما يثلج الصدر من عظيم فضل اللّه وكذلك الآية 20 من سورة يوسف المارة أيضا والآية 70 من سورة الفرقان والآية 5 من سورة والضحى والآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إسلاما كاملا وانقادوا لأوامره انقيادا تاما وتباعدوا عن نواهيه تباعدا بعيدا وأخلصوا له التوبة إخلاصا صحيحا حال كونكم خاضعين خاشعين {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 54} إذا حل بكم ومن ذا الذي ينصركم من اللّه أيها الناس كلا لا أحد، انتهت الآيات المدنيات.
واعلم أن الآية الثانية منها عدا 53 صرحت برجاء الرحمة من عشرة وجوه: 1 إن المذنب عبد والعبد محتاج لرحمة سيده وإفاضة إنعامه عليه، 2 إنه أضافه إليه ومن يضفه لذاته الكريمة يؤمنه من عذابه، 3 إن الإسراف الذي نسبه إليه ضرر وهو أكرم من أن يجمع ضررين على عبد، 4 إنه لم ينهه عن القنوط إلا ليؤمله بالرجاء، 5 أضاف الرحمة لأعظم أسمائه الحسنى فتكون أعظم أنواعها لذلك العبد، 6 إنه أضاف الغفران لذلك الاسم العظيم لتأكيد المبالغة في إيفاء الوعد بها، 7 إنه أكد ذلك الغفران ليكون عاما مطلقا يشمل هذا العبد وغيره، 8 إنه وصف ذاته بالرحيم مرة أخرى إشارة إلى تحصيل موجبات تلك الرحمة، 9 إن هذين الوصفين يفيدان الحصر، والحصر يفيد الكمال ولا تكون الرحمة كاملة إلا إذا عمت، 10 إنه وصف نفسه فيها بالغفور وهو لفظ يدل على المبالغة بالمغفرة ولا تكون إلا إذا عمت أيضا.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة؟
قال لا، فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى اللّه تعالى إلى هذه أن تقرّبي وإلى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له.- لفظ البخاري- ولمسلم: فدلّ على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا هل له من توبة فقال لا فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل صالح فقال إنه قتل مئة نفس فهل من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون اللّه تعالى فاعبد اللّه معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى اللّه إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي يعني القرية التي جاء منها والقرية التي ذهب إليها وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة.