فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الطبري: أي: لك، اللهم نخشع ونذل ونستكين. إقرارًا لك بالربوبية لا لغيرك- قال- والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمِّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبّدًا، ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: مبعبّد، ومنه سمي العبد: عبدًا؛ لذلته لمولاه انتهى.
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئًا ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقريب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الارض والسماوات وحده، وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب، فلابد أن يكون العابد محبًّا للإله المعبود كمال حب، ولابد أن يكون ذليلًا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا كله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلا هو، تعالى. وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيهًا على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه سُلَيم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} [فصلت: 37] الآية. وفي قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 40- 41]. وفي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] الآية. وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} [آل عِمْرَان: 80] الآية. وفي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19- 20]. وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، إنها السَّنَن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة قَالَ إِنَّكُمْ قَوْم تَجْهَلُونَ} إلى قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138- 140]» رواه الترمذي وصححه.
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فروى الإمام أحمد والترمذي عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، فقلت له: إنا لنسا نعبدهم، قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمون، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم».
فالعبادة أنواع وأصناف، ولا يتم الإيمان إلا بتوحيدها كلها لله سبحانه. وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة؛ أي: ركنها المهم الأعظم، وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60]. فمساه عُبَاْدَة. وفي الخبر: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل».
قال شمس الدين بن القيم: ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفًا منه، أو رجاءً له، فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلًا وندًا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى.

.فائدة: الفاتحة سر القرآن:

قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [الصافات: 23]: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالًا من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة.
فهذا الكلام استئناف ابتدائي.
ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية.
روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال: كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجل يَرْتجز حولَها:
أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبه ** يا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه

ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأَذِيَّهْ ** ذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَهْ

في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ

فقال النعمان: أليس بأبي أُمَامَة؟ كنية النابغة قالوا: بلى، قال: فأْذَنوا له فدخل.
والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله: {الحمد لله} إلى قوله: {ملك يوم الدين} إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله: {إياك نعبد} إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتًا.
وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة: أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلًا عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.
ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته:
طَحَا بكَ قلب في الحسان طروب

مخاطبًا نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتًا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتًا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم.
ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى: {إياك نعبد} التفاتًا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله: {إياك نعبد} تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.
ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشيًا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه.
قال السكاكي في المفتاح بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطَعْم وطَعْم ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب.
فهذه فائدة مطردة في الالتفات.
ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبًا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.
وما هنا التفات بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، كعكس هذا الالتفاتتِ في قول محمد بن بشير الخارجي نسبَة إلى بني خارجة قبيلة:
ذُممتَ ولم تُحمد وأدركتُ حاجةً ** تولَّى سواكم أَجرَها واصطناعها

أَبى لك كَسْبَ الحمدِ رأي مقصِّرُ ** ونفس أضاق اللَّهُ بالخير باعها

إذا هي حثتْه على الخير مرة ** عصاها وإنْ هَمَّت بشرَ أطاعها

فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال: إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه، وبعكس ذلك قوله تعالى: {والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي} [العنكبوت: 23] لاعتبار تشنيع كفر المتحدَّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم.
ومما يزيد الالتفات وقعًا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله: {إياك نعبد} تخلصًا يجئ بعده: {اهدنا الصراط} ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني:
أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرته ** تحرك داء في فُؤَادِيَ داخل

وأن تِلاَدِي إنْ نظرتُ وشكَّتِي ** ومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامل

حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنها ** هِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل

وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات شَجاعة العربية كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر.
و{إياك} ضمير خطاب في حالة النصب.
والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليَعْتَمِد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو: إياي تعني، وإيَّاك أعني، وإيَّاهم أرجو.
ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل.
ومن النحاة من جعل إيَّا ضميرًا منفصلًا ملازمًا حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد.
ومنهم من جعل إيَّا هو الضمير وجعل ما بعده حروفًا لبيان الضمير.
ومنهم من جعل إيَّا اعتمادًا للضمير كما كانت أيّ اعتمادًا للمنادى الذي فيه ال.
ومنهم من جعل إيَّا اسمًا ظاهرًا مضافًا للمضمَرات.
والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس.
وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز.
والعبادة في الشرع أخص فتُعرَّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة. اهـ. فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها.
وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب.
فهي أقوى.
وقال بعضهم: العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود.
والصبر على المفقود.
وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.
قال الفخر: مراتب العبادة ثلاث: الأولى أن يعبد الله طمعًا في الثواب وخوفًا من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب.
الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله.
الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقًا مستحقًا للعبادة وكونه هو عبدًا له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية. اهـ.