فصل: مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه، وفي رواية لم يعمل خيرا قط، وفي رواية لم يعمل حسنة قط، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح فو اللّه لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قط، فلما مات فعل به ذلك، فأمر اللّه الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب، أو قال مخافتك يا رب، فغفر له بذلك.
ولعل المجوس وبعض الهنود ومن نحا نحوهم الذين يحرقون موتاهم أخذوا ذلك من هذه القصة، لأن هذا الرجل الذي ذكره حضرة الرسول لم يكن من أهل زمانه بل ممن تقدم من الأمم، وقد بقوا على عادتهم تلك ولم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم فلم يتبعوها وبقوا على ما هم عليه حتى الآن، وقد استحسنها من لا خلاق لهم من الدين بحجة أنها أقطع لجراثيم الموتى من أن تنتقل ذراتهم إلى الأحياء، ولم يعلم أن في هذه إهانة للمؤمن، وقال صلّى اللّه عليه وسلم: كرامة الميت دفنه، وفي القبور مانع من انتشار الذرّات لأنها تحت الأرض بقامة وبسطة يد، وكيف يركن قلب المؤمن إلى حرق ميته وهو أعز الناس عليه، وفي دفنه ذكرى له على مر الأيام بالخير إن كان من أهل الخير فيعملون بعمله، وإن كان من أهل الشر فيجتنبون عمله، فيكون خيرا نشا عن شر.
وعنه أيضا قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبه فيقول له اقتصر، فوجده يوما على ذنب، فقال اقتصر فقال خلّني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال واللّه لا يغفر لك اللّه، أو قال لا يدخلك الجنة، فقبض اللّه روحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادر؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار.
قال أبو هريرة تكلم واللّه بكلمة أوبقت دنياه وآخرته- أخرجه أبو داود.
وقال زيد بن أسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال انطلقوا به إلى النّار، فيقول يا رب فأين صلاتي وصيامي، فيقول اللّه اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي.
وعنه أيضا أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة اللّه ثم مات فقال أي رب مالي عندك؟ قال النار، قال يا رب فأين عبادتي واجتهادي؟
فقيل له إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
وقال مقاتل: قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ولم يرخص لهم في معاصي اللّه عز وجل.
وعليه فلا ينبغي للواعظ والخطيب أن يقتصر على الوعيد ويترك الوعد لأنه ربما قنط الناس فيدخل فيما ذكر، قال صلّى اللّه عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا».
أي يسروا على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة، لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة، وبشروا بفضل اللّه وعظيم ثوابه، وسعة رحمته، وشمول عفوه، وجزيل عطائه ومغفرته، ولا تعسروا في كل الأوقات ولا تنفروا عباد اللّه بما تشددون عليهم من الزجر والوعيد فيقنطوا أو ييأسوا، فتتسببوا في إضلالهم {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.
أمر اللّه عباده باتباع الأحسن بعد أن أمرهم بالتقوى ووعدهم بالمغفرة إعلاما بأنه تعالى يريد منهم ما هو أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالأحسن في الآية 18 المارة من هذه السورة وبينا فيها ما يراجع بذلك ففيه كفاية.

.مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض:

ولا يخفى أن الأحسن يكون في الأوامر والإرشادات إلى خير الدارين والأحكام والحدود وإصلاح ذات البين لا في القصص والأخبار والعبر والأمثال بما وقع من الأقدمين، هذا من جهة، ومن أخرى فإن أحسن ما أنزل اللّه من الكتب السماوية وأجمعها وأفضلها هو هذا القرآن المجيد لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية 24 المارة، وعليه فيكون المنزل ثلاثة أصناف: ذكر جل شأنه في القرآن الأحسن يؤثر على غيره ويؤخذ به، والأدون منه لئلا يرغب فيه، والقبيح ليجتنب، ولهذا يجب على الخلق كافة اتباع ما في القرآن من الأحكام الحسن منها والأحسن، لأنه ناسخ لما تقدمه مما يخالفه منها، وعليه فإن الخطاب في هذه الآية عام لكل الأمة، لأنه أنزل للأمة أجمع، وقد أمر صلّى اللّه عليه وسلم بدعوة من على وجه الأرض كلهم، فمن أجاب فهو من أمة الإجابة، ومن أبي فهو من أمة الدعوة، فهلموا عباد اللّه لإجابة دعوة ربكم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ 55} بأن يفاجئكم على حين غرة وأنتم غافلون فتعتذرون ولا يقبل منكم، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إياكم وما يعتذر منه، وهو {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} حين ترى أهوال القيامة وفظايع العذاب {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي حق اللّه وأمره وطاعته، وهذا مما يطلق عليه الجنب، قال القائل:
أما تتقين اللّه في جنب وامق ** له كبد حرى عليك تقطع

أي الجانب المؤدي لرضائه كالتقصير في الطاعات ومخالفة الأوامر والتفريط في حقوق الغير وفي كل ما يتعلق به حق اللّه تعالى وحق عباده وحيواناته لأن لكل حقا، قال صلى اللّه عليه وسلم «اتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم» أي من الإماء والحيوان بأن تحمل فوق طاقتها أو تضرب بدون تقصير، وجاء في الخبر: يعاقب ضارب الحيوان بوجهه لا بوجهه إلا بوجهه حيث يضرب على النفار لا على العثار، لأنه يكون غالبا من إهمال الراكب.
قال تعالى حكاية عن هذه النفس المفرطة {وَإِنْ كُنْتُ} في الدنيا {لَمِنَ السَّاخِرِينَ 56} بمن يحذرني هول هذا اليوم وينصحني عن التفريط في ضياع عمري سدى، وهذه الجملة ترددها كل نفس فرطت في دنياها ندما وحزنا وغما على ما فاتها من عمل صالح وقول مرشد وقبول إرشاد {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} للتقوى وقبول نصح الناصحين {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 57} الشرك ودواعيه في الدنيا ولم يحل بي العذاب الآن في الآخرة {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ} عند طرحها فيه بشدة وعنف وتذوق ألمه {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} عودة إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 58} فيها إلى نفسي وإلى الناس أجمع باتباع أوامر ربي وطاعة رسله وهكذا يتمنى هذه الأماني وغيرها، ولكن في غير وقتها والتمني رأسمال المفلس، لهذا فإن اللّه تعالى يرد تمنياته ولا يقبل أعذاره ويخاطبه أن الأمر ليس كذلك {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي} في الدنيا وأرسلت إليك رسلي فطلبوا منك الانقياد لأوامري وسلوك سبل هدايتي وبلغوك كتي فأبت نفسك الخبيثة إلا عصياني وأعرضت {فَكَذَّبْتَ بِها} وبمن جاءك بها {وَاسْتَكْبَرْتَ} وأنفت عنها وتعاليت عليها واستهزأت بها عدا التكذيب والجحود {وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ 59} بها وبمن جاءك بها والآن جئت تتمنى الاماني الفارغة بقبول اعتذارك وجوابها أن يقال لك اخسأ ولا تتكلم، راجع الآية 108 من سورة المؤمنين الآتية ففيها بحث نفيس {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} يا سيد الرسل {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} سوادا بشعا شنيعا لا يقاس بما تراه من تراه من سواد الدنيا فهو نوع مكروه قبيح منتن والعياذ باللّه، والجملة من المبتدأ والخبر حال اكتفى فيها بالضمير عن الواو وعلى أن ترى فيها بصرية لا اعتقادية أما إذا كانت عرفانية قلبية فالجملة في محل نصب مفعول ثاني لها {أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 60} عن آياتي والإيمان برسلي وكتبي، بلى وجاهه فيها منازل شتى الواحد منها أشر من الآخر يأوي إليها أمثال هؤلاء.
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ} بظفرهم وفلاحهم وبلوغهم المقصد الهنيء الأسنى، لأنهم قطعوا مفازات الجهل بميثاق الطاعات، والمفازة الطريق بالجبل وهي من الأضداد لأنه الطريق الوعر فإذا قطعه فاز بمقعده وبلغ الراحة {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} هو كل ما تستاء منه النفس وأعظمه عذاب النار وهو المراد هنا واللّه أعلم لمناسبة المقام إذ لكل مقام مقال {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 61} على ما فاتهم في الدنيا لأنهم رأوا خيرا منها ولا يصيبهم أذى يؤدي إلى حزنهم ولا ينال قلوبهم غم يسبب حزنهم بل يكونون فرحين مسرورين بما آتاهم {اللَّهُ} ربهم من فضله العميم الواسع كيف لا وهو {خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ} مما هو كائن أو سيكون في الدنيا والآخرة من خير وشر وإيمان وكفر في خلقه لا بطريق الجبر بل بمباشرة المتصف بها والمتعرض لأسبابها، وفي هذه الآية ردّ صريح على المعتزلة ومن نحا نحوهم المنزهين اللّه عن خلق الشرور وإرادة الكفر، راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 40 من سورة الأنعام المارة {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 62} فهو القائم بحفظ الأشياء كلها والمتصرف بها كيف يشاء بمقتضى الحكمة وفق ما هو سابق في علمه، فأمر كل شيء موكل إليه دون منازع أو معارض أو مشارك، وتدل هذه الجملة على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى لأنها لو وقعت بخلقهم لكانت موكولة إليهم فلا حجة للمعتزلة أيضا فيها وهم القائلون بخلق أفعال العبد نفسه.
واعلم أن صدر هذه الأمة لم يختلف في أفعال وأعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فبين اللّه تعالى في هذه الآية أنها كلها من خلقه والشيء الوارد من الآية عام يدخل فيه كل ما يتقولون عنه {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} مفاتح خزائنها بيده جل جلاله وهما وما بينهما وفوقهما وتحتهما ملك لعظمته يتصرف فيهما وبما فيهما كيفما يشاء ويختار.
وكلمة مقاليد قيل إنها فارسية معربة من إقليد قال الراجز:
لم يوذها الديك بصوت تغريد ** ولم يعالج غلقها بإقليد

والصحيح أنها عربية لتكلم العرب بها قبل نزول القرآن، وقدمنا ما يتعلق بجميع هذه الكلمات الموجودة في القرآن العظيم في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعها، والمراد في المقاليد هنا واللّه أعلم ما ذكرناه من أنه لا يملك أمرهما ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره، إذ لا يقدر على ذلك إلا اللّه، كما أنه لا يقدر على حفظهما وما فيهما غيره.
هذا، وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فقال لا إله إلا اللّه واللّه أكبر سبحان اللّه والحمد للّه أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي قدير.
وجاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس مثله بزيادة كثيرة.
وهناك خبر آخر عن ابن عمر بمعناه أيضا وأخبار أخر لم نعتمد صحتها، وعليه يكون المعنى أن للّه تعالى هذه الكلمات يوحّد بها سبحانه ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ذلك الخير، ووجه إطلاق المقاليد على هذه الكلمات أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلّى اللّه عليه وسلم شيئا من الخير لمن يقولها في حديث ابن عباس وهي عشر خصال لمن قالها في اليوم مئة مرة 1 أن يحرس من إبليس وجنوده، 2 أن يعطى قنطارا من الأجر 3 أن يتزوج من الحور العين، 4 أن تغفر ذنوبه، 5 أن يكون مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، 6 أن يحضر موته اثنا عشر ملكا يبشرونه بالجنة، 7 ويزفونه من قبره إلى الموقف كما تزف العروس، 8 أن يحفظ من هول الموقف، 9 أن يعطى كتابه بيمينه 10 أن بمر على الصراط ويدخل الجنة.
والحديث بتمامه بالدر المنثور واللّه تعالى على كل شيء قدير فيعطي لمن يشاء هذا الفضل على هذه الكلمات وأقل منها وبلا شيء أيضا إذا شاء وقد ألمعنا إلى مثل هذا في الآية 59 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 198 من سورة الشورى الآتية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 63} وهذه متصلة بما قبلها أي أنه تعالى ينجي المتقين ويهلك الكافرين ويجعل صفقتهم خاسرة وجملة {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} معترضة مشار فيها إلى أنه الذي لا يخفى عليه شيء لأنه الخالق لكل شيء الفاتح كل شيء {قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ 64} بعد أن ظهر لكم الدليل القاطع والبرهان الساطع مما تقدم بأنه لا يستحق أحد العبادة غيره، وجاءت هذه الآية بمعرض الجواب للكفرة القائلين لحضرة الرسول أن يوافقهم على دين آبائهم وعبادة أوثانهم تبكيتا لهم كيف يدعونك يا سيد الرسل إلى هذا {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} الأنبياء إخوانك بأن يبلغوا كل فرد من أممهم فيقولون له {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} شيئا مع ربك بالعبادة {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} بسبب الشرك وكما أن الإيمان يجب ما قبله فالشرك يمحق ما قبله من الأعمال الصالحة، واللامان في لئن وليحبطن موطئتان للقسم كأنه جل قوله يقول اعلم أيها الرجل وعزتي وجلالي لئن أشركت ليحبطن عملك {وَلَتَكُونَنَّ} أيها الإنسان {مِنَ الْخاسِرِينَ 65} لخيري الدنيا والآخرة.

.مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية:

وإنما صح هذا الخطاب على ظاهره لحضرة الرسول ولمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع علمه بمعصوميتهم واستحالة الشرك عليهم، لأن المراد به غيره من أممهم على طريق ضرب المثل إياك أعني واسمعي يا جاره وعلى فرض المقصود به الأنبياء لأن الخطاب موجه إليهم خاصة فيكون لتبهيج حضراتهم وإقناط الكفرة والإيذان بشناعة الشرك وقبح الكفر وكونهما بحيث ينهى عنهما من لا يكاد يقربهما، وإذا كان ينهى عنهما من لا يتصور مباشرتها منهم فكيف بمن عداهم وهما على غاية من الذم ونهاية من الشؤم، وعلى القول بأن المراد أمم الأنبياء فتفيد هذه الآية التنبيه الشديد والوعيد الأكيد لمن يشرك باللّه وتهدده بأن مصيره والعياذ باللّه إلى الخسران الذي ما بعده خسران، وما استدل به صاحب المواقف على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء ولا وجه له، وقد أوضحنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 44 من سورة يوسف المارة وفي الآية 124 من سورة طه في ج 1 وأشرنا فيها إلى المواضع التي تكلمنا فيها على هذا من آيات القرآن العظيم، فراجعها ففيها كفاية.
هذا وما ذكرناه من أنه على سبيل الفرض والتقدير بالنظر لظاهر الآية لأن احتمال الوقوع فرضا كاف في القضية الشرطية كما هنا.
وليعلم أن القضايا قسمان: حملية وهي ما ينحلّ طرفاها إلى مفردين كزيد كاتب أو ليس بكاتب، وشرطية وهي ما لا ينحل طرفاها إلى مفردين مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
ولكل منهما أقسام يرجع في معرفتها إلى علم المنطق.
وليعلم أيضا أن القضية والخبر والمطلوب والنتيجة والمسألة في الأصل شيء واحد ولكنها تختلف من حيث التسمية فقط، فإنها من حيث اشتمالها على الحكم تسمى قضية، ومن حيث اشتمالها على الصدق والكذب تسمى خبرا، ومن حيث كونها جزءا من الدليل تسمى مقدمة، ومن حيث كونها نتيجة تسمى علما، ومن حيث كونها يسأل عنا في العلم تسمى مسألة.
قال صاحب التلويح: الذات واحدة واختلاف العبادات باختلاف الاعتبار، وقيل في المعنى:
عباراتهم شتى وحسنك واحد ** وكل إلى ذلك الجمال يشير

عود على بدء: إلا أنه ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع في المعصية على جميع الأنبياء شرعية كما ستقف عليه من مطالعة المواقع التي أرشدناك لمراجعتها أيها القارئ المنصف الكريم، وقد استدل السادة الحنفية من عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الشرك إلى الموت بأن الردة تحبط العمل الذي قبلها مطلقا وبوجوب قضاء الحج فقط لأن ثواب حجه قبل الردة أحبط بها أيضا، أما عدم قضاء الصلاة والصيام والزكاة مثلا فلم يوجبوه باعتباره دخل في الإسلام حديثا والدخول بالإسلام يكفر ما قبله من الآثام، فلو فرض أنه لم يصلّ ولم يزكّ قط كسائر الكفرة فإنه لا يكلف بشيء من ذلك، لأن الإيمان يجب ما قبله.