فصل: القراءات والوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أخبر سبحانه عما له وحده، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها، وأرشد السياق إلى أن التقدير: فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره، وإن اشتد الإشكال، وتراكمت وجوه الضلال، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال، والغي والمحال، فقال محذرًا من مثل حاله، بما حكم عليه في مآله: {والذين} ولما كان الإنسان مفطورًا على الخضوع للملك الديان، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان، عبر بصيغة الافتعال فقال: {اتخذوا} أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله: {من دونه} ومعلوم أن كل شيء دونه {أولياء} أي يكلون إليهم أمورهم، ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله مع اعترافهم بأن الله تفرد بخلقهم ورزقهم.
ولما كان من العجب العجيب فعلهم، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال: {ما} أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه وليًا: ما {نعبدهم} لشيء من الأشياء {إلا ليقربونا} ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال: {إلى الله} الذي له معاقد العز ومجامع العظمة، تقريبًا عظيمًا على وجه التدريج ويزلفونا إليه {زلفى} أي تقريبًا حسنًا سهلًا بهجًا زائدًا ناميًا متعاليًا، قال القشيري: ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فرد الله عليهم، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، فكل ذلك اتباع هوى- انتهى- والآية من الاحتباك: ذكر فعل التقريب أولًا دليلًا على فعل الزلف ثانيًا، واسم الزلف ثانيًا دليلًا على الاسم من التقريب أولًا، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد وبدأ بأرشق الفعلين وأشهرهما وأخفهما وأوضحهما، وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها، وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول، وهم أهل الاتحاد الذين لا أسخف من عقولهم ولا أجمد من أذهانهم.
ولما كان إنما محط دينهم الهوى، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيرًا فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة، ولذلك كلن لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى وكان بعض القبائل يعبد الشعرى، وبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم غير ذلك {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] نبه على ذلك مهددًا لهم بقوله مخبرًا مؤكدًا لأجل إنكارهم: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال: {يحكم بينهم} من غير تأكيد آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلابد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل.
ولما كانوا أوزاعًا أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها، قال: {في ما} أي في الدين الذي والأمر الذي.
ولما كان تحكيمهم للهوى موفرًا لدواعيهم على الاختلاف، وكان الاتخاذ الذي يبنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال: {هم} أي بضمائرهم {فيه يختلفون} أي ليس لهم أصل يضبطهم، فهو لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقلبوا لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون عنها ليس خلافًا بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله، ومن هذا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وأبي وغيرهما رضى الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا» فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقلًا أو اجتهادًا لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه والله الموفق، ويجوز أن يكون الضمير في {بينهم} لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود، فهم مع من يعبدهم في غاية الخلاف.
ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحًا إلا أن انتظم بنظام غير مختل، وكان الدين إذا كان معوجًا داعيًا إلى التفرق مناديًا على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضيًا للتعجب ممن تدين به، فضلًا عمن يدوم عليه، فضلًا عمن لا ينتبه عند التنبيه، فضلًا عمن يقاتل دون ذلك، أجاب من كأنه قال: سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعًا الاختلاف بالفعل أو بالقوة، فقال مؤكدًا تكذيبًا لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن ظهر لبعض العمى غير ذلك مما يبدو من الكذبة والكفرة من أعمال مزينة وأفكار دقيقة فتظن هدى وإنما هي استدراج.
ولما أرشد السياق إلى أن المعنى: لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم، نسق به قوله: {إن الله} أي الملك القادر القاهر الحكيم.
ولما كان الأصل: لا يهديهم وأراد سبحانه التعميم وتعليق الحكم بالوصف تنفيرًا عنه قال: {لا يهدي} أي لا يخلق الهداية في قلب {من هو} أي لضميره {كاذب} أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئًا يقرب إليه بغير إذنه، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضرًا ولا نفعًا، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم.
ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال: {كفار} بصيغة المبالغة، والأحسن أن يقال: إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه سبحانه الموت على ذلك، قال القشيري: والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي شيئًا ليس بصادق فيه فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده، وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{يرضه} بالإِشباع: ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف {يرضه} باختلاس ضمة الهاء: يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون {يرضه} بسكون الهاء {ليضل} بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم {أمن هو} بتخفيف المميم: نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد {يا عبادي الذين} بفتح الياء: الشموني والبرجمي والوقف بالياء {إني أمرت} {فبشر عبادي} بفتح المتكلم فيهما: شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء {إني أخاف} بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.
{سالمًا} بالألف: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون: بفتح السين واللام من غير ألف.

.الوقوف:

{الحكيم} o {له الدين} o ط {الخالص} ط {أولياء} o التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره {زلفى} ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده {يختلفون} o ط {كفار} o {ما يشاء} ز لتعجيل التنزيه {سبحانه} ط {القهار} o ز {بالحق} ج لاحتمال كون ما بعده حالًا والاستئناف أفضل {والقمر} ط {مسمى} ط {الغفار} o {أزواج} ط {ثلاث} ط {الملك} ط {تصرفون} o {الكفر} ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض {لكم} ط {أخرى} ط لأن ثم لترتيب الأخبار {تعملون} o {الصدور} o {سبيله} ط {قليلًا} ز ص والأولى والوصل أو التقدير فإنك {النار} o {رحمة ربه} o {لا يعلمون} o {الألباب} o {ربكم} ط {حسنة} ط {واسعة} ط {حساب} o {له الدين} o ط {المسلمين} o {عظيم} o {ديني} o لا {دونه} ط {يوم القيامة} ط {المبين} o {ومن تحتهم ظلل} ط {عباده} ط {فاتقون} o {البشرى} ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب {عباد} o لا {أحسنه} ط {الألباب} o {العذاب} o {في النار} o ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف {الأنهار} ط {وعد الله} ط {الميعاد} o {حطامًا} ط {الألباب} o {من ربه} ط لحذف جواب الاستفهام من {ذكر الله} ط {مبين} o {ربهم} ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف {ذكر الله} ط {من يشاء} ط {هاد} o {يوم القيامة} ط لحق الحذف كما مر {تكسبون} o {لا يشعرون} o {الدنيا} ج للام الابتداء مع العطف {أكبر} o {يعلمون} o {يتذكرون} o ج لاحتمال كون {قرآنا} نصبًا على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء {يتقون} o {متشاكسون} o {لرجل} ط {مثلًا} ط {الله} ج للإضراب مع اتفاق الجملتين {لا يعلمون} o {ميتون} o {تحتصمون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
ذكر الفراء والزجاج: في رفع {تَنزِيلَ} وجهين أحدهما: أن يكون قوله: {تَنزِيلَ} مبتدأ وقوله: {مِنَ الله العزيز الحكيم} خبر والثاني: أن يكون التقدير هذا تنزيل الكتاب، فيضمر المبتدأ كقوله: {سورة أنزلناها} [النور: 1] أي هذه سورة، قال بعضهم: الوجه الأول لوجوه الأول: أن الإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة هاهنا الثاني: أنا إذا قلنا: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد فائدة شريفة، وهي أن تنزيل الكتاب يكون من الله، لا من غيره وهذا الحصر معنى معتبر، أما إذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة الثالث: أنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير هذا تنزيل الكتاب من الله، وحينئذ يلزمنا مجاز آخر، لأن هذا إشارة إلى السورة، والسورة ليست نفس التنزيل، بل السورة منزلة، فحينئذ يحتاج إلى أن نقول المراد من المصدر المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة.
المسألة الثانية:
القائلون بخلق القرآن احتجوا بأن قالوا إنه تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلًا ومنزلًا، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق والجواب: أنا نحمل هذه اللفظة على الصيغ والحروف.
المسألة الثالثة:
الآيات الكثيرة تدل على وصف القرآن بكونه تنزيلًا وآيات أخر تدل على كونه منزلًا.
أما الأول: فقوله تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين} [الشعراء: 192]، وقال: {تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] وقال: {حم تَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرحيم} [فصلت: 1، 2].
وأما الثاني: فقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] وقال: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] وأنت تعلم أن كونه منزلًا أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلًا، فكونه منزلًا مجاز أيضًا لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات الله فهو لا يقبل الإنفصال والنزول، وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول، بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة:
قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادرًا على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة، وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى عزيزًا حكيمًا يدل على هذه الصفات الثلاثة، العلم بجميع المعلومات، والقدرة على كل الممكنات، والاستغناء عن كل الحاجات، فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح، وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصوابًا.
إذا ثبت هذا فنقول الانتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما: أن يعلم أن القرآن كلام الله، والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقًا، وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام الله فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام الله والأصل الثاني: أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها، أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيسًا، وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين، وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيمًا، وثبت أن لا سبيل إلى إثبات كونه حكيمًا إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزًا، فلهذا السبب قال: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.
أما قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجمًا على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب: إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكمًا كليًا جزمًا بأن يوصل إليك هذا الكتاب، وهذا هو الإنزال، ثم أوصلناه نجمًا إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}؟ والجواب: فيه وجهان الأول: المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبسًا بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني: أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن الكتاب نازل من عند الله، وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزًا لما عجزوا عن معارضته.
ثم قال: {فاعبد الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى لما بين في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف هنا بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى: {فاعبد الله مُخْلِصًا} وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} لأن قوله: {أَلاَ لِلَّهِ} يفيد الحصر، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لابد من البحث عنها:
أما العبادة: فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.
وأما الإخلاص: فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال، فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحًا على الجانب الآخر أو معادلًا له أو مرجوحًا.
وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط، وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحًا على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة مرارًا ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص، لأن قوله: {فاعبد الله مُخْلِصًا} صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام أحدها: أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل وثانيها: أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار وثالثها: أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرًا في إيجاب الثواب أو دفع العقاب ورابعها: وهو أن يخلص تلك الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة.