فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضًا إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضًا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام:
النوع الأول: قوله: {قُلْ يا عِبَادِى الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية، قال القاضي: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم، لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى، لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمنًا مع عدم التقوى، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الدنيا حَسَنَةٌ} فقوله: {فِى هذه الدنيا} يحتمل أن يكون صلة لقوله: {أَحْسَنُواْ} أو لحسنة، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، والتنكير في قوله: {حَسَنَةٌ} للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها.
وأما على التقدير الثاني: فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية» ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول: أن التنكير في قوله: {حَسَنَةٌ} يدل على النهاية والجلالة والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا، فإنها خسيسة ومنقطعة، وإنما يليق بأحوال الآخرة، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني: أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وأيضًا فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار، وأيضًا فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقال تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، الثالث: أن قوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الدنيا حَسَنَةٌ} يفيد الحصر، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا، وهذا باطل.
أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى، ثم قال الله تعالى: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} وفيه قولان الأول: المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرض قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} [النساء: 97] والقول الثاني: قال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله، أي جنته واسعة، لقوله تعالى: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] والقول الأول عندي أولى، لأن قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول، وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر، فقد ذكرناه في سورة البقرة، والمراد هاهنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية:
تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب، لأن الأجر هو المستحق، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرًا بحسب الوعد، لا بحسب الاستحقاق.
المسألة الثالثة:
أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب، وفيه وجوه الأول: قال الجبائي: المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلًا فهو بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابًا، قال القاضي هذا ليس بصحيح، لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق، والأجر غير التفضل الثاني: أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها: أنها تكون دائمة الأجر لهم، وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} معناه بغير نهاية، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه، فما لا نهاية له كان خارجًا عن الحساب وثانيها: أنها تكون منافع كاملة في أنفسها، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه، وما لا يتوقعه الإنسان، فقد يقال إنه ليس في حسابه، فقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} محمول على هذا المعنى والوجه الثالث: في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال، روى صاحب الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب الله الموازين يوم القيامة، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبًا» قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ.
قَالَ الْقَاضِي: الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ مِنْ تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ، فَقَالَ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنْ الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى حَثْيًا، وَيُغْرَفُ غَرْفًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} يعني الكافر {ضُرٌّ} أي شدّة من الفقر والبلاء {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي راجعًا إليه مُخْبِتًا مطيعًا له مستغيثًا به في إزالة تلك الشدّة عنه.
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} أي أعطاه وملّكه.
يقال: خوّلك الله الشيء أي ملّكك إياه؛ وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هُنَالِكَ إِن يُسْتَخْوَلُوا الْمالَ يُخْوِلوا ** وإِن يُسْألُوا يُعْطُوا وإِن يَيْسِروا يُغْلُوا

وخَوَلُ الرجل: حَشَمُه الواحد خائل.
قال أبو النّجم:
أَعْطَى فلم يَبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ ** كُوم الذُّرى مِن خَوَلِ الْمُخَوَّلِ

{نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي نسى ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه.
ف ما على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي.
وقيل: بمعنى من كقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] والمعنى واحد.
وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل.
أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر.
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} أي أوثانًا وأصنامًا.
وقال السّدي: يعني أندادًا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم.
{لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي ليقتدي به الجهال.
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي قل لهذا الإِنسان {تَمَتَّع} وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} أي مصيرك إلى النار.
قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل} بيّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره.
وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي {أَمَّنْ} بالتشديد.
وقرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة: {أَمَنْ هُوَ} بالتخفيف على معنى النداء؛ كأنه قال يا من هو قانت.
قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل.
وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين؛ كما قال أوس بن حَجَر:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيدٍ ** إِلاَّ يَدًا لَيْسَت لها عَضُدُ

وقال آخر هو ذو الرُّمّة:
أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرةً ** فَمَاءُ الْهَوى يَرْفَضُّ أَو يَتَرَقْرَقُ

فالتقدير على هذا {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة؛ كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يُصلي ويَصوم أبشر؛ فحذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل: إن الألف في {أمن} ألف استفهام أي {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ} أفضل؟ أم من جعل لله أندادًا؟ والتقدير الذي هو قانت خير.
ومن شدد {أَمَّنْ} فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم.
النحاس: وأم بمعنى بل، ومَن بمعنى الذي؛ والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر.
وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع؛ قاله ابن مسعود.
الثاني أنه الخاشع في صلاته؛ قاله ابن شهاب.
الثالث أنه القائم في صلاته؛ قاله يحيى بن سلاّم.
الرابع أنه الداعي لربه.
وقول ابن مسعود يجمع ذلك.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل» وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت» وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام.
وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن.
وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغضّ البصر.
وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضُّوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئًا من أمر الدنيا إلا ناسين.
قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصلّ فقمت أصلّي وكان عليّ ثوب خَلِق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا؟ فقلت: كنت أتزيَّن قال: فالله أحق أن تتزيَّن له.
واختلف في تعيين القانت هاهنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه.
وقال مقاتل: إنه عمّار بن ياسِر.
الكلبي: صُهَيب وأبو ذرّ وابن مسعود.
وعن الكلبي أيضًا مرسل فيمن كان على هذه الحال.
{آنَاءَ الليل} قال الحسن: ساعاته؛ أوله وأوسطه وآخره.
وعن ابن عباس: {آنَاءَ اللَّيْلِ} جوف الليل.
قال ابن عباس: من أحبّ أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدًّا وقائمًا يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
وقيل: ما بين المغرب والعشاء.
وقول الحسن عام.
{يَحْذَرُ الآخرة} قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة.
{وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي نعيم الجنة.