فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله: {قُل يا عِبادِ الذين ءَامنوا اتَّقُوا} [الزمر: 10] أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يقول قولًا يتعين أنه مَقول لغير المسلمين.
نقل الفخر عن مقاتل: أن كفار قريش قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللاّت والعُزّى، فأنزل الله: {قل إني أُمرتُ أن أعْبُدَ الله مُخلصًا له الدِّينَ}.
وحقًا فإن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذي يبْتغون صرفه عن ذلك.
ويجوز أن يكون موجهًا إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإِذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن، فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصًا له الدين، أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 94 95]، أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخَّص ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومماته لله، أي فلا يَفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة [الأنعام: 162- 163]: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} فكان قوله: {لأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسلمين} علة ل {أعبد الله مخلصًا له الدين} فالتقدير: وأمِرت بذلك لأن أكون أول المسلمين، فمتعلِّق {أُمِرْتُ} محذوف لدلالة قوله: {أن أعبد الله مخلصًا له الدين} عليه.
ف {أول} هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإِخبار به، وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلامًا بحيث إن ما يقوم به الرسول من أمور الإِسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال: «إني لأتقاكم لله وأعلمكم به».
وعطف وأمرت الثاني على {أُمِرْتُ} الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غَاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور، وذكرُ الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين: أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصًا له الدين، والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أولَ المسلمين، أي أمره الله بأن يبلُغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصًا له الدين، فجعل وجوده متمحضًا للإِخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162- 163].
واعلم أنه لما كان الإِسلام هو دين الأنبياء في خاصتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} في سورة [البقرة: 132] ونظائرها كثيرة، كانت في هذه الآية دلالةٌ على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لشمول لفظ المسلمين للرسل السابقين.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} هذا القول متعين لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا بأن يواجه به المشركين الذين كانوا يحاولون النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الدعوة وأن يتابع دينهم.
وهما أحد الشقين اللذين وجّه الخطاب السابق إليهما، وتعيينُ كلّ لما وجّه إليه منطوٍ بقرينة السياق وقرينةِ ما بعده من قوله: {فاعبدوا ما شِئْتُم من دُونِه} [الزمر: 15].
وإعادة الأمر بالقول على هذا للتأكيد اهتمامًا بهذا المقول، وأمّا على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين في المراد من توجيه المطلب في قوله: {إِني أُمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين} [الزمر: 11] الآية فتكون إعادة فعل {قل} لأجل اختلاف المقصودين بتوجيه القول إليهم، وقد تقدم قول مقاتل: قال كفار قريش للنبيء: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألاَ تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون الّلاتَ والعزّى.
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} أمر بأن يعيد التصريح بأنه يعبد الله وحده تأكيدًا لقوله: {قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين} [الزمر: 11]، لأهميته، وإن كان مفاد الجملتين واحدًا لأنهما معًا تفيدان أنه لا يعبد إلا الله تعالى باعتبار تقييد {أعْبُدَ الله} الأول بقيد {مُخلصًا له الدين} وباعتبار تقديم المفعول على {أَعْبُد} الثاني فتأكد معنى التوحيد مرتين ليتقرر ثلاث مرات، وتمهيدًا لقوله: {فاعبدوا ما شئتم من دونه} وهو المقصود.
والفاء في قوله: {فَاعْبُدُوا} الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري.
والأمر في قوله: {فاعبدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ} مستعمل في معنى التخلية، ويعبر عنه بالتسوية.
والمقصود التسوية في ذلك عند المتكلم فتكون التسوية كناية عن قلة الاكتراث بفعل المخاطب، أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة [الكهف: 29]: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} أي اعبدوا أيّ شيء شئتم عبادتَه من دون الله.
وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل.
{دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران} أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصًا على إصلاحهم على عادة القرآن، ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعًا بين الإِرشاد وبين التوبيخ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون.
وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيهًا على أنه واقع وتعريف {الخَاسِرِينَ} تعريف الجنس، أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر، فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسران غيرهم كَلاَ خسران، ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف.
ولما كان الكلام مسوقًا بطريق التعريض بالذين دَار الجدال معهم من قوله: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} إلى قوله: {فاعبدوا ما شئتم من دونه} [الزمر: 7 15]، عُلم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم، فأفاد معنى: أن الخاسرين أنتم، إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله: {الذين خسروا أنفسهم} لإِدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
ومعنى خسرانهم أنفسهم: أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح، وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يُلقونها في النعيم، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف، فأطلق على هذه الهيئة تركيب {خَسِرُوا أنفسَهُم} وقد تقدم في قوله تعالى: {ومن خفَّت موازينُه فأُولئِكَ الذين خَسِروا أنفُسَهُم بما كانوا بأياتِنا يظلِمُون} في أوّل سورة [الأعراف: 9].
وأما خسرانهم أهليهم فهو مِثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم: {لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه} [عبس: 37]، وهذا قريب من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6]، فكان خسرانهم خسرانًا عظيمًا.
فقوله: {ألاَ ذلِكَ هو الخُسرانُ المبينُ} استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف {الذين خسروا} بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان، ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دالٌّ على قوة المصدر والمبالغة فيه.
وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم، بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلًا على اسم الإِشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز، وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله: {إنَّ الخاسِرينَ الذين خَسِروا أنفسهم وأهليهم}.
{لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}.
بدل اشتمال من جملة {ألا ذَلِكَ هو الخسرانُ المبينُ} [الزمر: 15]، وخص بالإِبدال لأنه أشد خسرانهم عليهم لتسلطه على إهلاك أجسامهم.
والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة.
فضمير {لهم} عائد إلى مجموع {أنفُسَهُم وأهْلِيهِم} [الزمر: 15].
والظلل: اسم جمع ظلة، وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصُّفَّة يستظل به الجالس تحته، مشتقة من الظلّ لأنها يكون لها ظِلّ في الشمس، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} في سورة [البقرة: 210]، وقوله: {وإذا غشيهم موج كالظلل} في سورة [لقمان: 32].
وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله: {مِنَ النَّارِ} شبهت بالظلة في العلوّ والغشيان مع التهكم لأنهم يتمنون ما يحجب عنهم حرّ النار فعبر عن طبقات النار بالظّلَل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وقوله: {لهم} ترشيح للاستعارة.
وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللًا لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة.
{ظُلَلٌ ذلك يُخَوِّفُ الله بِهِ}.
تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى: {قُل إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم} [الزمر: 15] الآية، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظلل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل: ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم؟ فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم.
ولما كان وعيد الله خبرًا منه ولا يكون إلا صدقًا حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإِخبار به وبوصفه، أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد.
ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى، إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة لأهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتمامًا لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية.
والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكنًا لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل ظهور التكليف، وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنَفَسَيْن نفس في الشتاء ونفس في الصيف».
ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث.
وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور.
والتخويف: مصدر خوفه، إذا جعله خائفًا إذا أراه ووصف له شيئًا يثير في نفسه الخوف، وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس.
والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعمّ كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان، والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك، وليس العباد هنا مرادًا به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن قرينة قوله: {عِبَادَهُ} تدل على أن المنادَيْن جميع العباد، ففرق بينه وبين نحو {يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم} [الزخرف: 68].
{يَا عِبَادِ فَاتَّقُون} تفريع وتعقيب لِجملة {ذلك يُخوّفُ الله بهِ عِبَادَه} لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب.
وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى: {واتقون يا أولي الألباب} في سورة [البقرة: 197] لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب، فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفًا بالواو.
وحذفت ياء المتكلم من قوله: {يا عِبادِ} على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم. اهـ.