فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قُلْ} تهديدًا لذلك الضَّالَّ المُضلَّ وبيانًا لحالِه ومآلِه {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي تمتُّعًا قليلًا أو زمَانًا قليلًا {إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} أي ملازميها والمعذَّبين فيها على الدَّوامِ وهو تعليلٌ لقلَّة التَّمتعِ، وفيه من الإقناط من النَّجاةِ ما لا يخفى كأنَّه قيل: إذ قد أبيتَ قبولَ ما أُمرتَ به من الإيمان والطَّاعةِ فمن حقَّك أنْ تُؤمرَ بتركه لتذوقَ عقوبتَه.
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الليل} الخ من تمام الكلامِ المأمورِ به وأم إما متصلة قد حُذف معادلُها ثقةً بدلالة مساقِ الكلام عليه كأنَّه قيل له تأكيدًا للتَّهديد وتهكُّمًا به: أأنت أحسنُ حالًا ومآلاٍ أمَّن هو قائمٌ بمواجب الطَّاعاتِ ودائم على أداءَ وظائف العبادات في ساعاتِ اللَّيل حالتَيْ السَّراءِ والضَّراءِ لا عند مساس الضُّرِّ فقط كدأبك حالَ كونِه {ساجدا وَقَائِمًا} أي جامعًا بين الوصفينِ المحمودينِ، وتقديمُ السُّجودِ على القيام لكونه أدخلَ في معنى العبادةِ. وقُرئ كلاهُما بالرَّفعِ على أنه خبرٌ بعد خبرٍ {يَحْذَرُ الآخرة} حالٌ أُخرى على التَّرادفِ أو التَّداخلِ. أو استئنافً وقع جوابًا عمَّا نشأ من حكاية حالِه من القنوتِ والسُّجود والقيامِ كأنَّه قيل ما بالُه يفعل ذلك فقيلَ يحذرُ عذابَ الآخرةِ {مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ} فينجُو بذلك مما يحذرُه ويفوزُ بما يرجُوه كما ينبىءُ عنه التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبَّيةِ المنبئةِ عن التَّبليغِ إلى الكمالِ مع الإضافة إلى ضميرِ الرَّاجي لا أنَّه يحذرُ ضرَّ الدُّنيا ويرجُو خيرَها فقط، وإما منقطعةٌ وما فيها من الإضرابِ للانتقالِ من التَّهديدِ إلى التَّبكيتِ بتكليف الجواب الملجىءِ إلى الاعترافِ بما بينهما من التَّباينِ البيِّن كأنَّه قيل: بل أمن هو قانتٌ الخ أفضل أمَّن هو كافرٌ مثلك كما هو المعنى على قراءة التَّخفيفِ {قُلْ} بيانًا للحقِّ وتنبيهًا على شرفِ العلمِ والعمل {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ} حقائقَ الأحوالِ فيعملون بموجبِ علمهم كالقانتِ المذكورِ {والذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي ما ذُكر أو شيئًا فيعملون بمقتضى جهلِهم وضلالِهم كدأبك والاستفهامُ للتَّنبيه على أنَّ كون الأَوَّلينَ في أعلى معارج الخيرِ وكون الآخرينَ في أقصى مدارج الشَّرِّ من الظُّهورِ بحيث لا يكادُ يخفى على أحدٍ من منصفِ ومكابرٍ وقيل: هو واردٌ على سبيل التَّشيبهِ أي كما لا يستوي العالمونَ والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرَ أُوْلُو الالباب} كلامٌ مستقلٌّ غير داخلٍ في الكلام المأمور به واردٌ من جهته تعالى بعد الأمر بما ذُكر من القوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفر والمعاصِي لبيانِ عدمِ تأثيرِها في قلوبِ الكفرةِ لاختلال عقولهم كما في قَول مَنْ قال:
عُوجُوا فحيُّوا لنُعْمَى دِمْنَةَ الدَّار ** مَاذا تُحيُّونَ من نُؤْيٍ وَأَحْجَارِ

أي إنما يتَّعظُ بهذه البيانات الواضحة أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وهؤلاءِ بمعزلٍ من ذلك. وقُرئ إنَّما يذكَّر بالإدغام.
{قُلْ يا عِبَادِى الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التَّذكُّر بأولي الألباب إيذانًا بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به. وقولُه تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسان وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} وقوله تعالى: {فِى هذه الدنيا} متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله عليه السَّلامُ: «أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراهُ فإنَّه يراكَ» {حَسَنَةٌ} أي حسنة عظيمةٌ لا يُكْتَنَه كُنْهُها وهي الجنَّةُ. وقيل: هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أو حالٌ من ضميرها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلًا وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها، وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زياذةِ حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ {أَجْرَهُمْ} بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر. عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب، ولا يُعرف. وفي الحديثِ «أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاءِ بل يُنصبُّ عليهم الأجرُ صَّبًا حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ».
{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيدًا لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ.
{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي وأُمرت بذلك لأجلِ أنْ أكونَ مقدَّمهم في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه. والعطفُ لمغايرةِ الثَّاني الأوَّلَ بتقييده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللاَّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} فالمعنى وأُمرت أنْ أكونَ أوَّلَ مَن أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه.
{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتمُ عليه من الشِّركِ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيه من الدَّواهي والأهوالِ {قُلِ الله أَعْبُدُ} لا غيرَه لا استقلالًا ولا اشتراكًا {مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى} من كلِّ شَوْبٍ. أُمر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلًا ببيان كونِه مأمورًا بعبادةِ الله تعالى وخلاصِ الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهارًا لتصلُّبه في الدِّينِ وحسمًا لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيدًا لتهديدِهم بقوله تعالى: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أنْ تعبدُوه {مِن دُونِهِ} تعالى وفيه من الدِّلالةِ على شدَّةِ الغضبِ عليهم ما لا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ.
{قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه وإتلافِ ما لابد منه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما {يَوْمُ القيامة} حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها. وقيل: خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا أنفسَهم إنَ كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهابًا لا إيابَ بعدَهُ. وفيه أنَّ المحذورَ ذهابُ ما لو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ. وقيل: خسِروهم لأنَّهم لم يدخلُوا الذين لهم أهلٌ في الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا، وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما ذُكر بل بيانَ أنَّهم هم، إمَّا بجعلِ الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجًا أوليًّا. وما في قوله تعالى: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المُشارِ إليه في الشَّرِّ. وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ على كمالِ هوله وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه ما لا يَخفْى. وقوله تعالى: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار} الخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويلِه بطريقِ الإيهامِ على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ. ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل: هو حالٌ من ظُللٌ. والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضَّميرِ في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ {وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضًا {ظُلَلٌ} أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم أيضًا عد تردِّيهم في دَرَكاتِها {ذلك} العذابُ الفظيعُ هو الذي {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه {يَا عِبَادِى فاتقون} ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي. وهذه عظة من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقُرئ {يا عبادِي} اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ} لما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده، وبيّن لهم من بديع صنعه، وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي: غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له فإنه الغنيّ المطلق، ومع كون كفر الكافر لا يضرّه كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضًا {لاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي: لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به، ومثل هذه الآية قوله: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي لو أن أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها، وإن الكفر غير مرضيّ لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة؟، والمعنى: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة، والسدّي، وغيرهما.
ثم اختلفوا في الآية اختلافًا آخر.
فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر، ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده، ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدًّا.
وقد استدلّ القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه: {يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [النحل: 93] {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الإنسان: 30]، ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز.
ثم لما ذكر سبحانه: أنه لا يرضى لعباده الكفر بيّن أنه يرضى لهم الشكر، فقال: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يرض لكم الشكر المدلول عليه بقوله، وإن تشكروا، ويثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر؛ لأنه سبب سعادتهم في الدنيا، والآخرة كما قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وشيبة، وهبير عن عاصم بإسكان الهاء من {يرضه} وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان، وابن كثير، والكسائي، وابن محيصن، وورش عن نافع، واختلس الباقون.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير، وشر، وفيه تهديد شديد {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: بما تضمره القلوب، وتستره، فكيف بما تظهره، وتبديه.
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} أيّ: ضر كان من مرض، أو فقر، أو خوف {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي: راجعًا إليه مستغيثًا به في دفع ما نزل به تاركًا لما كان يدعوه، ويستغيث به من ميت، أو حيّ، أو صنم، أو غير ذلك {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي: أعطاه، وملكه، يقال: خوّله الشيء، أي: ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ** وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

ومنه قول أبي النجم:
أعطى ولم يبخل ولم يُبَخِّل ** كوم الذرى من خول المخوّل

{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي: نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله.
وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به، وتركه، أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرّع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله، وهو معنى قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} أي: شركاء من الأصنام، أو غيرها يستغيث بها، ويعبدها {لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي: ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام، والتوحيد.
وقال السدّي: يعني: أندادًا من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يهدّد من كان متصفًا بتلك الصفة، فقال: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي: تمتعًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} أي: مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم.
قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه: التهديد، والوعيد.
قرأ الجمهور: {ليضل} بضم الياء، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتحها.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين، فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل} وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: ذلك الكافر أحسن حالًا، ومآلًا، أمن هو قائم بطاعات الله في السرّاء، والضرّاء في ساعات الليل، مستمرّ على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به.
قرأ الحسن، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، والكسائي: {أمن} بالتشديد، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة، ويحيى بن وثاب، والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة، وأدغمت الميم في الميم، وأم هي المتصلة، ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت.
وقيل: هي المنقطعة المقدّرة ببل، والهمزة، أي: بل أمن هو قانت كالكافر، وأما على القراءة الثانية، فقيل: الهمزة للاستفهام دخلت على من، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف، أي: أمن هو قانت كمن كفر.
وقال الفراء: إن الهمزة في هذه القراءة للنداء، ومن منادى، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله: {قل تمتع} والتقدير: يا من هو قانت، قل: كيت، وكيت.
وقيل: التقدير: يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة.
ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفرّاء، وضعف ذلك أبو حيان، وقال: هو أجنبيّ عما قبله، وعما بعده، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو عليّ الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم، والأخفش، ولا وجه لذلك، فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدّراية.
وقد اختلف في تفسير القانت هنا، فقيل: المطيع.