فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبما قررنا تعلم أن المتشابه هنا مراد به معنى غير المراد في قوله تعالى: {وأُخر متشابهات} [آل عمران: 7] لاختلاف ما فيه التشابه.
الصفة الرابعة: كونه مثاني، ومثاني: جمع مُثَنَّى بضم الميم وبتشديد النون جمعًا على غير قياس، أو اسم جمع.
ويجوز كونه جمع مَثْنى بفتح الميم وتخفيف النون وهو اسم لِجعل المعدود أزواجًا اثنين، اثنين، وكلا الاحتمالين يطلق على معنى التكرير.
كُنِّي عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير، كما كُني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4]، وقول العرب: لَبَّيْك وسَعْديك، أي إجابات كثيرة ومساعدات كثيرة.
وقد تقدم بيان معنى {مثاني} في قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} في سورة [الحجر: 87]، فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض.
وهذا يتضمن امتنانًا على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ.
ويتضمن أيضًا تنبيهًا على ناحية من نواحي إعجازه، وهي عدم المَلل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكرره قبولًا وحَلاوة في نفوس السامعين.
فكأنه الوجه الحسن الذي قال في مثله أبو نواس:
يزيدك وجهه حُسنًا ** إذا ما زدته نظَرا

وقد عدّ عياض في كتاب الشفاء من وجوه إعجاز القرآن: أن قارئه لا يَمَلّه وسامعه لا يمجه، بل الإِكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضًا طريًا، وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغًا عظيمًا يُمَل مع الترديد ويُعادى إذا أعيد، ولذا وَصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: «بأنه لا يخلق على كثرة الرد» رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعًا.
وذكر عياض أن الوليد بن المغيرة سمِع من النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطَلاوة.
وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله: {ولقد أتيناك سبعًا من المثاني} [الحجر: 78] لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متّحدًا.
ووصَف {كِتابًا} وهو مفرد بوصف {مثاني} وهو مقتض التعدد يعيّن أن هذا الوصف جرى عليه باعتبار أجزائه، أي سوره أو آياته باعتبار أن كل غرض منه يكرر، أي باعتبار تباعيضه.
الصفة الخامسة: أنه تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني، أي مثنَّى الأغراض، وهو مشتمل على ثلاث جهات:
أولاها: وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه، وذلك لما في آياته الكثيرة من الموعظة التي تَوْجَل منها القلوب، وهو وصف كمال لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس، ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامهم لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به، وما تبارى الخطباء والبلغاء في ميادين القول إلا للتسابق إلى غايات الإِقناع، كما قال قيس بن خارجة، وقد قيل له: ما عندك؟ عندي قِرى كللِ نازل، ورضى كل سَاخط، وخُطبةٌ من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع.
وقد ذكر أرسطو في الغرض من الخطابة أنه إثارة الأهواء وقال: إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزنًا أو مسرة.
وقد اقتضى قوله: {تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم} أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإِنسان إذا ارتاع وخشي اقشعرّ جِلده من أثر الانفعال الرهبني، فمعنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} تقشعر من سماعه وفهمه، فإن السماع والفهم يومئذٍ متقارنان لأن السامعين أهل اللسان.
يقال: اقشعر الجلد، إذا تقبض تقبضًا شديدًا كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته.
يقال: اقشعر جلده، إذا سمع أو رأى مَا يثير انزعاجه ورَوعه، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالبًا.
وقد عدّ عياض في الشفاء من وجوه إعجاز القرآن: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبةَ التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه، قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية اللَّه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21].
وعن أسماء بنت أبي بكر كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمَع أعينهم وتقشعرّ جلودهم.
وخص القشعريرة بالذين يخشون ربهم باعتبار ما سيردف به من قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم} كما يأتي، قال عياض: وهي، أي الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه، على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه كما قال تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولَّوا على أدبارهم نفورًا} [الإسراء: 46].
وهذه الروعة قد اعْترت جماعة قبل الإِسلام، فمنهم من أسلم لها لأوللِ وهلة.
حُكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} إلى قوله: {المصيطرون} [الطور: 35 37] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وُقر الإِسلام في قلبي.
ومنهم من لم يسلم، روي عن محمد بن كعب القرظي قال: أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلى الله عليه وسلم في كفّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم، وعرض عليه أمورًا والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم اسمع ما أقول، وقَرأ عليه {حم} [فصلت: 1] حتى بلغ قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحِم أن يكفّ أي عن القراءة.
وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ منه جُلُود الذين يخشَونَ ربَّهُم ثمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلُوبهم إلى ذِكرِ الله}.
الجهة الثانية من جهات هذا الوصف: لين قلوب المؤمنين عند سماعه أيضًا عقب وجَلها العارض من سماعه قبلُ.
واللين: مستعار للقبول والسرور، وهو ضد للقساوة التي في قوله: {فويَلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهُم من ذِكرِ الله} فإن المؤمن إذا سمع آيات الوعيد والتهديد يخشى ربه ويتجنب ما حذر منه فيقشعرّ جلده فإذا عقب ذلك بآيات البشارة والوعد استبشر وفرِح وعرض أعماله على تلك الآيات فرأى نفسه متحلية بالعمل الذي وعد الله عليه بالثواب فاطمأنت نفسه وانقلب الوجل والخوف رجاءً وترقبًا، فذلك معنى لين القلوب.
وإنما يبعث هذا اللينَ في القلوب ما في القرآن من معاني الرحمة وذلك في الآيات الموصوفةِ معانيها بالسهولة نحو قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنَّه هو الغفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، والموصوفةِ معانيها بالرقة نحو: {يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} [الزخرف: 68 69]، وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتهما.
الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف: أعجوبة جمعه بين التأثيريْن المتضادَّيْن: مرةً بتأثير الرهبة، ومرة بتأثير الرغبة، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارِين على ما يَقتضيه جلالُه وما يقتضيه حلمه ورحمته.
وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين، مع كون الموصوف بالأمرين فريقًا واحدًا وهم الذين يخشون ربهم، والمقصود وصفهم بالتأثريْن عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة.
قال الفخر: إن المحققين من أهل الكمال قالوا: السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشُوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. اهـ.
فالآية هنا ذكرتْ لهم الحالتين لوقوعها بعد قوله: {مَثَانِيَ} كما أشرنا إليه آنفًا، وإلا فقد اقتصر على وصف الله المؤمنين بالوجل في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللَّه وَجلت قلوبهم في سورة} [الأنفال: 2]، فالمقام هنا لبيان تأثر المؤمنين بالقرآن، والمقام هنالك للثناء على المؤمنين بالخشية من الله في غير حالة قراءة القرآن.
وإنما جُمع بين الجلود والقلوب في قوله تعالى: {ثم تَلِينُ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} ولم يُكتف بأحد الأمرين عن الآخر كما اكتُفي في قوله: {تَقْشعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربهم} لأن اقشعرار الجلود حالة طارئة عليها لا يكون إلا من وجل القلوب وروعتها فكنّي به عن تلك الروعة.
وأما لين الجُلود عقب تلك القشعريرة فهو رجوع الجلود إلى حالتها السابقة قبل اقشعرارها، وذلك قد يحصل عن تناسسٍ أو تشاغل بعد تلك الروعة، فعطف عليه لين القلوب ليعلم أنه لين خاص ناشىء عن اطمئنان القلوب بالذكر كما قال تعالى: {ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب} [الرعد: 28] وليس مجرد رجوع الجلود إلى حالتها التي كانت قبل القشعريرة.
ولم يُكتف بذكر لين القلوب عن لين الجلود لأنه قصد أن لين القلوب أفعمها حتى ظهر أثره على ظاهر الجلود.
و{ذِكْرِ الله} وهو أحسن الحديث، وعُدل عن ضميره لبعد المعاد، وعدل عن إعادة اسمه السابق لمدحه بأنه ذكر من الله بعد أن مُدِح بأنه أحسن الحديث والمراد ب {ذِكْرِ الله} ما في آياته من ذكر الرحمة والبشارة، وذلك أن القرآن ما ذَكَر موعظة وترهيبًا إلا أعقبه بترغيب وبشارة.
وعُدّي فعل {تَلِينُ} بحرف {إلى} لتضمين {تَلِينُ} معنى: تطمئن وتسكن.
{الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ} استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغُرّ على القرآن الدالةِ على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالًا يهجس في نفس السامع أن يقول: كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرِّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يومًا فيومًا، فتقع جملة {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بهِ من يَشَاءُ} جوابًا عن هذا السؤال الهاجس.
فالإِشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه، أي ذلك المذكورُ هدى الله، أي جعله الله سبَبًا كاملًا جامعًا لوسائل الهدى، فمن فطر الله عقله ونفسَه على الصلاحية لقبول الهدى سريعًا أو بطيئًا اهتدى به، كذلك ومَن فطر الله قلبه على المكابرة، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله، فأطلق على هذا الفَطْر اسم الهُدى واسم الضلال، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبَّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته.
فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله: {ذلك هُدَى الله} راجع إلى ما هيّأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك.
ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفيًا لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه.
ويجوز أن تكون الإِشارة إلى {أحْسَنَ الحَدِيثِ} وهو الكتاب، أي ذلك القرآن هدى الله، أي دليل هدى الله.
ومقصده: اهتدى به من شاء الله اهتداءه، وكفر به من شاء الله ضلاله.
فجملة {ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ} تذييل للاستئناف البياني.
ومعنى {مَن يشَاءُ} على تقدير: من يشاء هديه، أي من تعلّقت مشيئته، وهي إرادته بأنه يهتدي فخلقه متأثرًا بتلك المشيئة فقدّر له الاهتداء، وفهم من قوله: {مَنْ يَشَاء} أنه لا يهدي به من لم يشأ هديَه وهو ما دلت عليه المقابلة بقوله: {ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ} أي من لم يشأ هديه فلم يقلع عن ضلاله فلا سبيل لهديه.
والمعنى: إن ذلك لنقص في الضالّ لا في الكتاب الذي من شأنه الهدى. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} ثم وقف نبيه صلى الله عليه وسلم على معتبر من مخلوقاته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكل بشر داخل معه في معناه. وقال الطبري وغيره: أشار إلى ماء المطر، وقالوا: العيون منه، ودليل ذلك أنها تنماع عن وجوده وتيبس عند فقده. وقال الحسن بن مسلم بن يناق، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر، ولكن ماؤها نازل من السماء. قال الشعبي: وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل.
قال القاضي أبو محمد: والقولان متقاربان: و: {سلكه} معناه: أجراه وأدخله، ومنه قول الشاعر البسيط.
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ** من نسل جوابه الآفاق مهداج

ومنه قول امرىء القيس: السريع.
وواحد الينابيع وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع. والزرع هنا واقع على كل ما يزرع.
وقالت فرقة: {ألوانه} أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك.
وقالت فرقة: {ألوانه} أنواعه من القمح والأرز. والذرة وغير ذلك.
و: {يهيج} ييبس، هاج النبات والزرع إذا يبس، ومنه قول علي رضي الله عنه في الحيث الذي في غريب ابن قتيبة: ذمتي رهينة وأنا به زعيم. أي لا يهيج عن التقوى زرع قوم، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل، والحديث. والحطام: اليابس المتفتت. ومعنى قوله: {لذكرى} أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال المذكور.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} روي أن هذه الآية: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} آية نزلت في علي وحمزة، وأبي لهب وابنه هما اللذان كانا من القاسية قلوبهم، وفي الكلام محذوف يدل الظاهر عليه، تقديره، أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله. وشرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله. والنور هداية الله تعالى، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود: قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح»، قالوا وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل الموت». والقسوة: شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ. وقال مالك بن دينار: ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، ويدل قوله: {فويل للقاسية} على المحذوف المقدر.
وقوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} يريد به القرآن، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قومًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر، فنزلت الآية في ذلك.
وقوله: {متشابهًا} معناه: مستويًا لا تناقض فيه ولا تدافع، بل يشبه بعضه بعضًا في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه.
وقوله: {مثاني} معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد. قال ابن عباس: ثنى فيه الأمر مرارًا. ولا ينصرف {مثاني} لأنه جمع لا نظير له في الواحد.
وقوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة» وقال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها» وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقوامًا اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيًا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال ابن عمر: وقد رئي ساقطًا عند سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله وما نسقط، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطًا رجليه ثم يقرأ القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقوله: {ذلك هدى الله} يحتمل أن يشير إلى القرآن، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود، أي ذلك أمارة هدى الله، ومن جعل {تقشعر} في موضع الصفة لم يقف على {مثاني} ومن جعله مستأنفًا وإخبارًا منقطعًا وقف على {مثاني} وباقي الآية بين. اهـ.