فصل: (سورة الزمر: آية 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} {وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} و{أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وفي معناه أوجه: أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بى في قولي وفعلى جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعنى: أن اللّه أمرنى أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب، بدليل العقل والوحى.
فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وقوله {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} قلت: ليس بتكرير، لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة اللّه بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص اللّه وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: {هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها {وَخسروا أَهْلِيهِمْ} لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعنى: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله {أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.

.[سورة الزمر: آية 16]:

{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)}.
{وَمِنْ تَحْتِهِمْ} أطباق من النار هي {ظُلَلٌ} لآخرين ذلِكَ العذاب هو الذي يتوعد اللّه بِهِ عِبادَهُ ويخوّفهم، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه {يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطى، وهذه عظة من اللّه تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ: {يا عبادي}.

.[سورة الزمر: الآيات 17- 18]:

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)}.
{الطَّاغُوتَ} فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين، لكونها مصدرا وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان طغيان، وأنّ البناء بناء مبالغة، فإنّ الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان، والمراد بها هاهنا الجمع. وقرئ: {الطواغيت}.
{أَنْ يَعْبُدُوها} بدل من الطاغوت بدل الاشتمال {لَهُمُ الْبُشْرى} هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى: {هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ} اللّه عزّ وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون. قال اللّه تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} وأراد بعباده {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وأراد أن يكونوا نقادا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب وندب، اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حرّاصا على ما هو أقرب عند اللّه وأكثر ثوابا، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك، كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا

يريد المقلد، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر اللّه فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدّث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على: {فبشر عبادي} ويبتدئ: {الذين يستمعون} يرفعه على الابتداء، وخبره أُولئِكَ.

.[سورة الزمر: آية 19]:

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)} أصل الكلام: أمّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أوّلها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى، كرّرت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع {مَنْ فِي النَّارِ} موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة. ووجه آخر: وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه، لأن {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ} يدل عليه: نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكدّه نفسه في دعائهم إلى الإيمان: منزلة إنقاذهم من النار. وقوله {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ} يفيد أنّ اللّه تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.

.[سورة الزمر: آية 20]:

{لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)}.
{غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ} علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله {مَبْنِيَّةٌ}؟ قلت: معناه- واللّه أعلم-: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} كما تجرى من تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل {وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد، لأنّ قوله {لهم غرف} في معنى، وعدهم اللّه ذلك.

.[سورة الزمر: آية 21]:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)}.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه اللّه {فَسَلَكَهُ} فأدخله ونظمه {يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} عيونا ومسالك ومجارى كالعروق في الأجساد {مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، وأصنافه من برّ وشعير وسمسم وغيرها يَهِيجُ يتم جفافه، عن الأصمعى، لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب حُطامًا فتاتا ودرينا {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى} لتذكيرا وتنبيها، على أنه لابد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال.
ويجوز أن يكون مثلا للدنيا، كقوله تعالى {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا} {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} وقرئ: {مصفارّا}.

.[سورة الزمر: آية 22]:

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)}.
{أَفَمَنْ} عرف اللّه أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسى القلب، ونور اللّه: هو لطفه، وقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية فقيل يا رسول اللّه: كيف انشراح الصدر؟ قال «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» فقيل: يا رسول اللّه، فما علامة ذلك؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وهو نظير قوله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ} في حذف الخبر {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} من أجل ذكره، أي: إذا ذكر اللّه عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى {فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} وقرئ: {عن ذكر اللّه}.
فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذكر اللّه، فالمعنى ما ذكرت، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر اللّه، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أي من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة: إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.

.[سورة الزمر: آية 23]:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)}.
عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: أنّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم اللّه مبتدأ وبناء {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى اللّه وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث. و{كِتابًا} بدل من أحسن الحديث. ويحتمل أن يكون حالا منه ومُتَشابِهًا مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون {مَثانِيَ} بيانا لكونه متشابها، لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني جمع مثنى بمعنى مردّد ومكرّر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرّد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير. والإعادة كما كان قوله تعالى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} بمعنى كرّة بعد كرّة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير.
ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من متشابها، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت، النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا، ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به اللّه سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا اللّه ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.
فإن قلت: ما وجه تعدية لأن بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت. أو اطمأنت إلى ذكر اللّه لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر اللّه من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غصبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رءوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أوّلا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا اللّه ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم ذلِكَ إشارة إلى الكتاب، وهو {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ} يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: {هدى للمتقين} {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} ومن يخذله من الفساق والفجرة فَما لَهُ مِنْ هادٍ أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى اللّه، أي: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى يَهْدِي بِهِ بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعنى: من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، {فَما لَهُ مِنْ هادٍ} من مؤثر فيه بشيء قط.

.[سورة الزمر: الآيات 24- 26]:

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)} يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كمن أمن العذاب، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: وسوء العذاب: شدّته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقى مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبى جهل. وقال لهم خزنة النار {ذُوقُوا} وبال {ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
{مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال اللّه.