فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة.
قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} إذا ذكرت آيات الرحمة.
قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرىء القيس:
فبتّ أكابد ليل التمام ** والقلب من خشية مقشعر

وقيل: المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة، والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرّت الجلود منه إعظامًا له، وتعجبًا من حسنه، وبلاغته ثم تلين جلودهم، وقلوبهم {إلى ذِكْرِ الله} عدّى تلين بإلى لتضمينه فعلًا يتعدّى بها، كأنه قيل: سكنت، واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير: إلى ذكر الله رحمته، وثوابه، وجنته، وحذف للعلم به.
قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعرّ جلودهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو: من الشيطان، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، وهو: مبتدأ، و{هُدَى الله} خبره، أي: ذلك الكتاب هدى الله {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} أن يهديه من عباده.
وقيل: إن الإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه، ورجاء ثوابه {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: يجعل قلبه قاسيًا مظلمًا غير قابل للحقّ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال.
قرأ الجمهور: {من هاد} بغير ياء.
وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء.
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا، وهو: الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر، وهو: العذاب، فقال: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} والاستفهام للإنكار، وقد تقدّم الكلام فيه، وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19]، ومن مبتدأ، وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى الاتقاء.
قال الزجاج: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة.
قال عطاء، وابن زيد: يرمى به مكتوبًا في النار، فأوّل شيء تمس منه وجهه.
وقال مجاهد: يجرّ على وجهه في النار.
قال الأخفش: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِنًا يَوْمَ القيامة} [فصلت: 40]، ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار، فقال: {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} وهو معطوف على يتقي أي: ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدّلالة على التحقيق.
قال عطاء: أي: جزاء ما كنتم تعملون، ومثل هذه الآية قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]، وقد تقدّم الكلام على معنى الذوق في غير موضع.
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أنهم كذبوا رسلهم {فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم، وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي: الذلّ، والهوان {فِي الحياة الدنيا} بالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، وغير ذلك {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} لكونه في غاية الشدّة مع دوامه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا ممن يعلم الأشياء، ويتفكر فيها، ويعمل بمقتضى علمه.
قال المبرّد: يقال: لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته، أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة، والمرارة إلى الذائق لهما.
قال: والخزي المكروه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} الآية قال: ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} فمن سرّه أن يعود الملح عذبًا، فليصعده.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} قال: أبو بكر الصديق.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} قلنا: يا نبيّ الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح، وانفسح» قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعًا مرسلًا.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلًا قال: يا نبيّ الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرًا للموت وأحسنهم له استعدادًا، وإذا دخل النور في القلب انفسح، واستوسع» فقالوا: ما آية ذلك يا نبيّ الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه: ثم قرأ: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ}.
وأخرج الترمذي، وابن مروديه، وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا، فنزل: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} الآية.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {مَّثَانِيَ} قال: القرآن كله مثاني.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا في الآية قال: القرآن يشبه بعضه بعضًا، ويردّ بعضه إلى بعض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضًا في الآية قال: كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مرارًا.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدّتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعرّ جلودهم، قلت: فإن ناسًا ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب} قال: ينطلق به إلى النار مكتوفًا، ثم يرمى به فيها، فأوّل ما تمسّ وجهه النار. اهـ.

.قال القاسمي:

{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي: هذا تنزيل، أو تنزيله كائن من الله.
وقرئ: {تَنزِيلُ} بالنصب على إضمار فعل.
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} أي: عن شعوب الشرك والرياء، بإمحاض التوحيد، وتصفية السر.
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة؛ لانفراده بالألوهية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: بالمحبة؛ للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي: يقولون ذلك احتجاجًا على ضلالهم: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: عند حشر معبوداتهم معهم، فيقرن كلًا منهم مع من يتولاه، من عابد ومعبود، ويدخل المبطل النار مع المبطلين، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} لا يوصله إلى النجاة، ومقر الأبرار.
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي: نزهه عن المماثلة، والمجانسة، واصطفاء الولد؛ لكون الوحدة لازمة لذاته، وقهره بوحدانيته لغيره، فلا تماثل في الوجود، فكيف في الوجوب؟
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي: بإذهاب أحدهما، وتغشية الآخر مكانه، كإنما ألبسه ولفّ عليه: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} وهو منتهى دوره، أو منقطع حركته: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} أي: من نفسها ونوعها: {زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: ذكرًا وأنثى، من الإبل والبقر والضأن والمعز: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ} أي: متقلبين في أطوار الخلقة: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} يعني البطن، والرحم، والمشيمة: {ذَلِكُمُ} أي: الخالق لصوركم. المكوّر أي: المصرف بقدرته، المسخر بسلطانه، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته، المنزل للنعم بنعمته: {اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي: عن عبادته إلى عبادة غيره.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي: عن إيمانكم: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لأنه سبب هلاكهم: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له، يقبله منكم؛ لأنه دينه، ويثيبكم ثوابًا حسنًا لطاعتكم.
تنبيه:
في الإكليل: استدل بقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي، وعلى أن الرضا غير الإرادة. وهو أحد قولي أهل السنة. والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور، أن الرضا والإرادة سيان، وحملوا العبادَ في الآية على المخلصين {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي: ما عليها من الذنوب، أو لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، بل كل مأخوذ بذنبه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} أي: بعد الموت: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما في القلوب من الخير والشر.
{وَإِذَا مَسَّ} أي: أصاب: {الْإِنْسَاْن ضُرٌّ} أي: شدة وبلاء: {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي: ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه، مقبلًا إليه بالدعاء والتضرع: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أي: أعطاه: {نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه، ويبتهل إليه. فما بمعنى من، أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفي، ولِمَا في ما، من الإبهام والتفخيم {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي: يصد الناس عن دينه وطاعته: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} أي: عش به: {قَلِيلًا} أي: يسيرًا في الدنيا.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجدًّا وَقَائِمًا} أي: متعبدًا في ساعاته يقطعها في السجود والقيام: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} أي: عقابها: {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي: جنته ورضوانه، أي: أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه؟: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} أي: توحيده، وأمره، ونهيه في الثواب والطاعة: {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يستويان.
تنبيهات:
الأول- في الآية استحباب قيام الليل. قال ابن عباس: آناء الليل: جوف الليل. وقال الحسن: ساعاته أوله، ووسطه، وآخره.
الثاني- في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ردّ على من ذم العبادة خوفًا من النار، أو رجاءً الجنة. وقال صلّى الله عليه وسلم «حولها ندندن».
الثالث- في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي} الآية مدح العلم، ورفعة قدره، وذم الجهل، ونقصه. وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة، كما أنه لا يكافئ بنت العالم، أفاده في الإكليل.
وفي الآية أيضًا إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم؛ إذ عبر عنهم أولا ب: القانت، ثم نفى المساواة بينه وبين غيره، ليكون تأكيدًا له، وتصريحًا بأن غير العالم كأن ليس بعالم.
قال القاشاني: وإنما كان المطيع هو العالم، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب، وتأصل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه، وأما المرتسم في حيز التخيل، بحيث يمكن ذهول النفس عنه، وعن مقتضاه، فليس بعلم. إنما هو أمر تصوري وتخيل عارض لا يلبث، بل يزول سريعًا، لا يغذو القلب، ولا يسمن، ولا يغني من جوع: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} أي: يتعظ بهذا الذكر: {أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} أي: العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر، وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي: للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا، مثوبة حسنة في الآخرة، لا يكتنه كنهها: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي: بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. قال الشهاب: وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة، أوضحه شراح الكشاف بأن قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى، ولذا قيد بالظرف؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات. وعقّب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان، فكان حثًّا على اغتنام فرصة الأعمار، وترك ما يعوق من حب الديار، والهجرة فيما اتسع من الأقطار، كما قيل:
إِذَاْ كَاْنَ أَصْلِيْ مِنْ تُرَاْبٍ ** فَكُلُّهَا بِلَاْدِيْ وَكُلُّ الْعَاْلِمِيْنَ أَقَاْرِبِي

انتهى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} أي: على مشاق الطاعة من احتمال البلاء، ومهاجرة الأوطان لها: {أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير مكيال؛ تمثيل للكثرة.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} أي: عن الالتفات إلى غيره.
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي: وأمرت بذلك، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن إخلاصه صلّى الله عليه وسلم أتم من إخلاص كل مخلص. وعلى هذا، فالأولية في الشرف والرتبة، أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته. فالأولية زمانية على ظاهرها. ويجوز أن تجعل اللام مزيدة. كما في: أردت لأن أفعل. فيكون أمرًا بالتقدم في الإخلاص.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أي: بترك الإخلاص له: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} أي: أخصه بالعبادة: {مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} عن شوب الغير.
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: أهلكوا أنفسكم بالضلال، وأهليهم بالإضلال، وخسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضًا، إن كانوا مثلهم، أو بفقدهم فقدًا لا اجتماع بعده، إن كانوا من أهل الجنة: {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي: أطباق من النار: {ذَلِكَ} أي: العذاب المتوعد به: {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} أي: بعدم التعرض لما يوجب السخط. قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى، ونصيحة بالغة.