فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} يعني الأوثان. وفعلوت للمبالغة: {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} أي: بالثواب: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي: أيثارًا للأفضل واهتمامًا بالأكمل. قال الزمخشري: أراد أن يكونوا نقادًا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلًا وأمارة، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:
وَلَاْ تَكُنْ مِثْلَ عِيْرٍ قِيْدَ فَانْقَاْدَا

يريد المقلد. انتهى ويدخل تحته أيضًا إيثار الأفضل من كل نوعين، اعتراضًا، كالواجب مع الندب، والعفو مع القصاص، والإخفاء مع الإبداء في الصدقة، وهكذا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} أي: أفأنت تنقذه منها؟ أي: لا يمكن إنقاذه أصلًا.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يتم جفافه: {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: فتاتًا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} أي: لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلًا للدنيا كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45]، أفاده الزمخشري.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} أي: وسعه لتسليم الوجه إليه وحه، ولقبول دينه، وشرعه بلطفه، وعنايته، وإمداده سبحانه: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: على بينة ومعرفة، واهتداء إلى الحق، واستعارة النور للهدى والعرفان، شهيرة، كاستعارة الظلمة لضد ذلك. وخبر من محذوف دلّ عليه قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أي: من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية، وإعراضها عن الكمالات القدسية، أو من أجل ذكره؛ فمن للتعليل والسببية.. وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه. قال الشهاب: إذا قيل: قسا منه، فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه. وإذا قيل: قسا عنه، فالمعنى أن قسوته جعلته متباعدًا عن قبوله، وبهما ورد استعماله. وقد قرئ ب: عن، في الشواذ. لكن الأول أبلغ؛ لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله، وهو معناه إذا تعدى ب: عن. وذكره تعالى مما يلين القلوب. فكونه سببًا للقسوة، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة، سببًا لقسوته: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: عن طريق الحق.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} أي: يشبه بعضه بعضًا. في الصحة، والإحكام، والبناء على الحق، والصدق، ومنفعة الخلق، ووجوه الإعجاز: {مَّثَانِيَ} جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر، لما ثنى من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} تمثيل لإفراط خشيتهم، أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته، وحكمه، ووعيده، بما يرد على قلوبهم منها: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: بالانقياد، والطاعة، والسكينة لأمره: {ذَلِكَ} أي: الكتاب، أو الكائن من الخشية والرجاء: {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ} أي: من زاغ قلبه: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم، أي: قائمًا مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له؛ لأن ما يتقى به هو اليدان، وهما مغلولتان. ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه؛ لأنه أعز أعضائه. وقل: الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به؛ لأن الوجه لا يتقى به. وخبر من محذوف كنظائره. أي: كمن أمن العذاب: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: وباله.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أي: لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: الذل والصغار: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي: بيّنا لهم في هذا القرآن، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه، من كل مثل يحتاج إليه. من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته: {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: به ما يهمهم من أمور دينهم، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم. فيفسروا المعقول بالمحسوس.
{قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: العذاب، والخزي يوم الجزاء، بالاتقاء من الأفعال القبيحة، والأخلاق الرديئة، والاعتقادات الفاسدة. ومن أجل تلك الأمثال. ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات، وهو الشرك، بقوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} أي: للمشرك والموحد رجلين مملوكين: {رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ} أي: سيئو الأخلاق، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة، لا يزال متحيرًا متوزع القلب، لا يدري أيهم يُرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجته: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ} أي: خلص ملكه له، لا يتجه إلى إلا جهته، ولا يسير إلا لخدمته، فهمّه واحد، وقلبه مجتمع: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: صفةً وحالًا. أي: في حسن الحال وراحة البال؟ كلا. وهكذا حال من يثبت آلهة شتى، لا يزال متحيرًا خائفًا لا يدري أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد. وحال من لم يعبد إلا إلهًا واحدًا، فهمّه واحد، ومقصده واحد، ناعم البال، خافض العيش والحال. والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة، ودرء الفرقة. كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال أبو السعود: تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى. وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته. أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل، أن لهم المثل الأعلى، وللمشركين مثل السوء. صنع جميل ولطف تام منه عز وجل، مستوجب لحمده وعبادته.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وقرئ: {مائت} و{مائتون} وقيل: كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلم موته. أي: إنكم جميعًا بصدد الموت.
وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونٍَ} إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ} أي: مالك أموركم: {تَخْتَصِمُونَ} أي: فتحتج أنت عليهم بأنك بلّغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات، واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد، وهم قد لجّوا في المكابرة والعناد. اهـ.

.قال سيد قطب:

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم.
{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.
العزيز القادر على تنزيله.
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير.
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلًا؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفًا عليها؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها. قضية توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق}.
وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود وفي الآية الخامسة من السورة يجيء: {خلق السماوات والأرض بالحق}. فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض، وأنزل به هذا الكتاب. الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض؛ والذي ينطق به هذا الكتاب. الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود.
{فاعبد الله مخلصًا له الدين}.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل إليه الكتاب بالحق. وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة.. عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.
وتوحيد الله وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان؛ إنما هو منهاج حياة كامل. يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة.
والقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئًا من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه. فالله وحده هو القوي عنده، وهو القاهر فوق عباده. والعباد كلهم ضعاف مهازيل، لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم. وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا. والله وحده هو المانح المانع، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء.
والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه. ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة.
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه؛ ويحس يد الله في كل ما حوله، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله. خالق كل شيء، ومحيي كل حي. ربه ورب كل شيء وكل حي.
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات. وترسم للحياة كلها منهاجًا كاملًا واضحًا متميزًا. ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان. ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله: وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد، في كل عصر، وفي كل بيئة. فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك.
{ألا لله الدين الخالص}.
يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلجل. بأداة الافتتاح {ألا} وفي أسلوب القصر {لله الدين الخالص}. فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة.. فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها. بل التي يقوم عليها الوجود كله. ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم: {ألا لله الدين الخالص}.
ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد.
{والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}.
فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض.. ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك. إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه. ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها. ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة ليست عبادة لها في ذاتها؛ إنما هي زلفى وقربى لله. كي تشفع لهم عنده، وتقربهم منه!
وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها، إلى هذا التعقيد والتخريف. فلا الملائكة بنات الله. ولا الأصنام تماثيل للملائكة. ولا الله سبحانه يرضى بهذا الانحراف. ولا هو يقبل فيهم شفاعة. ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق!
وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة أو تماثيل الملائكة تقربًا إلى الله بزعمهم وطلبًا لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه. طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب!
{إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}.
فهم يكذبون على الله. يكذبون عليه بنسبة بنوة الملائكة إليه؛ ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده! وهم يكفرون بهذه العبادة؛ ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح.
والله لا يهدي من يكذب عليه، ويكفر به. فالهداية جزاء على التوجه والإخلاص والتحرج، والرغبة في الهدى، وتحري الطريق. فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم لا يستحقون هداية الله ورعايته. وهم يختارون لأنفسهم البعد عن طريقه.
ثم يكشف عن سخف ذلك التصور وتهافته: {لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار}.
وهو فرض جدلي لتصحيح التصور. فالله لو أراد أن يتخذ ولدًا لاختار ما يشاء من بين خلقه؛ فإرادته مطلقة غير مقيدة. ولكنه سبحانه نزه نفسه عن اتخاذ الولد. فليس لأحد أن ينسب إليه ولدًا، وهذه إرادته، وهذه مشيئته، وهذا تقديره؛ وهذا تنزيهه لذاته عن الولد والشريك: {سبحانه هو الله الواحد القهار}.
وما اتخاذه الولد؟ وهو مبدع كل شيء؛ وخالق كل شيء، ومدبر كل شيء؟ وكل شيء وكل أحد ملكه يفعل به ما يشاء: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار} وهذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والأرض، وإلى ظاهرة الليل والنهار، وإلى تسخير الشمس والقمر توحي إلى الفطرة بحقيقة الألوهية التي لا يليق معها أن يكون هناك ولد ولا شريك. فالذي يخلق هذا الخلق وينشئه إنشاء، لا يحتاج إلى الولد ولا يكون معه شريك.
وآية الوحدانية ظاهرة في طريقة خلق السماوات والأرض، وفي الناموس الذي يحكم الكون. والنظر المجرد إلى السماوات والأرض يوحي بوحدة الإرادة الخالقة المدبرة. وما كشفه الإنسان حتى اليوم من دلائل الوحدة فيه الكفاية. فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها، وأنها بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة. وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الأجرام التي تتألف منها سواء في ذلك الأرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الأخرى في حركة دائمة، وأن هذه الحركة قانون ثابت لا يتخلف لا في الذرة الصغيرة ولا في النجم الهائل. واتضح أن لهذه الحركة نظامًا ثابتًا هو الآخر يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير.. وفي كل يوم يكشف الإنسان عن جديد من دلائل الوحدة في تصميم هذا الوجود. ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى، ولا ينحرف مع ميل، ولا يتخلف لحظة ولا يحيد.