فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روي عن رسول الله أنه قال: «لاَ تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفَق مثلَ أُحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».
ويجوز أن يكون {أسوأ} مسلوب المفاضلة وإنما هو مجاز في السوء العظيم على نحو قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف: 33] أي العمل الشديدُ السُوءِ، وهو الكبائر، وتكون إضافته بيانية.
وفي هذه الآية دلالة على أن رتبة صحبة النبي عظيمة.
وقال رسول الله: الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمَن أَحَبَّهم فبِحُبِّي أَحَبَّهم ومن أبغضهم فببغضي أَبغضَهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه.
وقد أوصى أئمة سلفنا الصالح أن لا يُذكَر أحد من أصحاب الرسول إلاّ بأحسننِ ذكر، وبالإمساك عما شجَر بينهم، وأنهم أحق الناس بأن يُلتمس لهم أحسنُ المخارج فيما جرى بين بعضهم، ويظنَّ بهم أحسن المذاهب، ولذلك اتفق السلف على تفسيق ابن الأشتر النخعي ومن لُف لفه من الثوّار الذين جاءوا من مصر إلى المدينة لِخلع عثمان بن عفان، واتفقوا على أن أصحاب الجمَلَ وأصحاب صِفِّينَ كانوا متنازِعين عن اجتهاد وما دفعهم عليه إلا السعي لِصلاح الإِسلام والذبّ عن جامعته من أن تتسَرب إليها الفُرقة والاختلال، فإنهم جميعًا قدْوتنا وواسطة تبليغ الشريعة إلينا، والطعن في بعضهم يفضي إلى مخاوف في الدين، ولذلك أثبت علماؤنا عدالة جميع أصحاب النبي.
وإظهار اسم الجلالة في موضععِ الاضمار بضمير {رَبِّهم} في قوله: {لِيُكفِّرَ الله عَنهم} لزيادة تمكن الإِخبار بتكفير سيئاتهم تمكينًا لاطمئنان نفوسهم بوعد ربهم.
وعطف على الفعل المجعوللِ علةٌ أولى فعلٌ هو علة ثانية وهو: {ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} وهو المقصود من التعليل للوعد الذي تضمنه قوله: {لهم ما يشاءون عند ربهم}.
والبناء في قوله: {بأحسن الذي كانوا يعملون} للسببية وهي ظرف مستقرّ صفة ل {أجْرَهم} وليست متعلقة بفعل {يجزيهم} أي يجزيهم أجرًا على أحسن أعمالهم.
وإذا كان الجزاء على العمل الأحسن بها الوعد وهو {لهم ما يشاءون عند ربهم} فدل على أنهم يُجازَون على ما هو دون الأحسن من محاسن أعمالهم، بدلالة إيذان وصف الأحسن بأن علة الجزاء هي الأحسنية وهي تتضمن أنّ لمعنى الحُسن تأثيرًا في الجزاء فإذا كان جزاء أحسن أعمالهم أَنَّ لهم ما يشاءون عند ربهم كان جزاء ما هو دون الأحسن من أعمالهم جزاء دون ذلك بأن يُجَازَوا بزيادة وتنفيل على ما استحقوه على أحسن أعمالهم بزيادة تنعم أو كرامة أو نحو ذلك.
وفي مفاتيح الغيب: أن مقاتِلًا كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإِيمان واحتجَّ بهذه الآية فقال: إنها تدل على أن من صدّق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفّر عنهم أسوأ الذي عملوا.
ولا يجوز حمل الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الأسوأ الكبائر التي يأتي بها بعد الإِيمان. اهـ.
ولم يجب عنه في مفاتيح الغيب وجوابه: لأن الأسوأ محتمل أن أدلة كثيرة أخرى تعارض الاستدلال بعمومها.
وفي الجمع بين كلمة {أسْوَأ} وكملة {أحسن} محسِّن الطِّبق. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} قد قدّمنا تحقيق المثل، وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى: {مِن كُلّ مَثَلٍ} ما يحتاجون إليه، وليس المراد ما هو أعمّ من ذلك، فهو هنا كما في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَىْء} [الأنعام: 38] أي: من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم.
وقيل: المعنى: ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظمون، فيعتبرون، وانتصاب {قُرْءانًا عَرَبِيًّا} على الحال من هذا، وهي حال مؤكدة، وتسمى هذه حالًا موطئة، لأن الحال في الحقيقة هو: عربيًا، وقرآنًا توطئة له، نحو جاءني زيد رجلًا صالحًا: كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح.
قال الزجاج: عربيًا منتصب على الحال، وقرآنا توكيد، ومعنى {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه.
قال الضحاك: أي غير مختلف.
قال النحاس: أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك.
وقيل: غير متضادّ.
وقيل: غير ذي لبس.
وقيل: غير ذي لحن.
وقيل: غير ذي شك كما قال الشاعر:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ** من الإله وقول غير مكذوب

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى بعد العلة الأولى.
وهي: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لكي يتقوا الكفر، والكذب.
ثم ذكر سبحانه مثلًا من الأمثال القرآنية للتذكير، والإيقاظ، فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} أي: تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها.
ثم بيّن المثل، فقال: {رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} قال الكسائي: نصب {رجلًا} لأنه تفسير للمثل.
وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: ضرب الله مثلًا برجل.
وقيل: إن {رجلًا} هو المفعول الأوّل، و{مثلًا} هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأوّل؛ ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة ياس، وجملة: {فِيهِ شُرَكَاء} في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف.
قال الفراء: أي مختلفون.
وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسًا، فهو: شكس مثل عسر يعسر عسرًا، فهو: عسر.
قال الجوهري: التشاكس الاختلاف.
قال: ويقال: رجل شكس بالتسكين، أي: صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله، وعبد آلهة كثيرة.
ثم قال: {وَرَجُلًا سَلَمًا لّرَجُلٍ} أي: خالصًا له، وهذا مثل من يعبد الله وحده.
قرأ الجمهور: {سلما} بفتح السين، واللام، وقرأ سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو العالية بكسر السين، وسكون اللام.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والجحدري، وأبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب: {سالمًا} بالألف، وكسر اللام اسم فاعل من سلم له، فهو: سالم، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأن السالم الخالص ضدّ المشترك، والسلم ضدّ الحرب، ولا موضع للحرب ها هنا، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فالسلم، وإن كان ضدّ الحرب، فله معنى آخر بمعنى: سالم، من سلم له كذا: إذا خلص له.
وأيضًا يلزمه في سالم ما ألزم به، لأنه يقال: شيء سالم، أي: لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى.
والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير، ومن معه.
ثم جاء سبحانه بما يدلّ على التفاوت بين الرجلين، فقال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} وهذا الاستفهام للإنكار، والاستبعاد، والمعنى: هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم، فيتعب، وينصب مع كون كل واحد منهم غير راضٍ بخدمته، وهذا الذي يخدم واحدًا لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه.
فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوّه باستوائهما، لأن أحدهما: في أعلى المنازل، والآخر: في أدناها، وانتصاب مثلًا على التمييز المحول عن الفاعل؛ لأن الأصل هل يستوي مثلهما، وأفرد التمييز، ولم يثنه؛ لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبينًا للجنس، وجملة: {الحمد للَّهِ} تقرير لما قبلها من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به.
ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وهم: المشركون، فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره، ووضوحه.
قال الواحدي، والبغوي: والمراد بالأكثر الكلّ، والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه، وعلوّ مكانه، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختصّ به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه، ويدركهم لا محالة، فقال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} قرأ الجمهور: {ميت} و{ميتون} بالتشديد، وقرأ ابن محيصن، وابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، واليماني: {مائت} و{مائتون} وبها قرأ عبد الله بن الزبير.
وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته، وموتهم مستقبلًا، ولا وجه للاستحسان، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى.
قال الفراء: والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت، وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات، وفارقته الرّوح.
قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليهم أنفسهم.
ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد، أنه لا يموت مع كونه توطئة، وتمهيدًا لما بعده حيث قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي: تخاصمهم يا محمد، وتحتجّ عليهم بأنك قد بلغتهم، وأنذرتهم، وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر، والظالم المظلوم.
ثم بيّن سبحانه حال كل فريق من المختصمين، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدًا، أو شريكًا، أو صاحبة {وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ} وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث، والنشور، وما أعدّ الله للمطيع، والعاصي.
ثم استفهم سبحانه استفهامًا تقريريًا، فقال: {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي: أليس لهؤلاء المفترين المكذّبين بالصدق، والمثوى: المقام، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوى ثواء، وثويًا، مثل مضى مضاء، ومضيًا.
وحكى أبو عبيد أنه يقال: أثوى، وأنشد قول الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزودا ** ومضى وأخلف من قُتَيْلَةَ موعدا

وأنكر ذلك الأصمعي، وقال: لا نعرف أثوى.
ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدّقين، فقال: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصول في موضع رفع بالابتداء، وهو: عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تابعه، وخبره: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} وقيل: الذي جاء بالصدق رسول الله، والذي صدّق به أبو بكر.
وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب.
وقال السدّي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة، ومقاتل، وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به المؤمنون.
وقال النخعي: الذي جاء بالصدق، وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة.
وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله، وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير، وهو: الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود: {والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به}.
ولفظ {الذي} كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفردًا، فمعناه: الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} أي: المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة.
وقرأ أبو صالح: {وصدق به} مخففًا، أي: صدق به الناس.
ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدّقين في الآخرة، فقال: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي: لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم، وتشويق بالغ، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم ذكره من جزائهم، وهو: مبتدأ، وخبره قوله: {جَزَاء المحسنين} أي: الذين أحسنوا في أعمالهم.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» ثم بيّن سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم، فقال: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ} فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاءون، أو بالمحسنين، أو بمحذوف.
قرأ الجمهور: {أسوأ} على أنه أفعل تفضيل.
وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى: سيء الذي عملوا.
وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة، والواو بزنة أجمال جمع سوء.
{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم، وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصدًا إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل.
قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوىء.