فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{فمن أظلم ممن كذب على الله} هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين، والمعنى: لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك، وحرّم وحلل من غير أمر الله؛ {وكذب بالصدق} وهو ما جاء به رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم؛ {إذا جاءه} أي وقت مجيئه، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به.
ثم توعدهم توعدًا فيه احتقارهم على جهة التوقيف، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم، وهو الكفر.
{والذي جاء بالصدق} معادله لقوله: {فمن أظلم}.
{وصدّق به} مقابل لقوله: {وكذب بالصدق}.
والذي جنس، كأنه قال: والفريق الذي جاء بالصدق، ويدل عليه: {أولئك هم المتقون} فجمع.
كما أن المراد بقوله: {فمن أظلم} يراد به جمع، ولذلك قال: {مثوى للكافرين}.
وفي قراءة عبد الله: {والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به}.
وقيل: أراد والذين، فحذفت منه النون، وهذا ليس بصحيح، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون، لكان الضمير مجموعًا كقوله:
وإن الذي حانت بفلح دماؤهم

ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله:
أبني كليب أن عميّ اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل: الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به هو محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال عليّ، وأبو العالية، والكلبي، وجماعة: الذي جاء بالصدق هو الرسول، والذي صدق به هو أبو بكر.
وقال أبو الأسود، ومجاهد، وجماعة: الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب.
وقال الزمخشري: والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: {ولقد آيتنا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} ولذلك قال: {أولئك هم المتقون} إلا أن هذا في الصفة، وذلك في الاسم.
ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى.
وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه.
استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أي لعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ.
فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقودًا لا موجودًا.
وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرّف.
والأظهر عدم التوزيع، بل المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى.
وقرأ الجمهور: {وصدق} مشددًا؛ وأبو صالح، وعكرمة بن سليمان، ومحمد بن جحازة: مخففًا.
قال أبو صالح: وعمل به.
وقيل: استحق به اسم الصدق.
قال ابن عطية: فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن {أولئك هم المتقون}. انتهى.
وقال الزمخشري: أي صدق به الناس، ولم يكذبهم به، يعني: أداه إليهم، كما نزل عليه من غير تحريف.
وقيل: معناه: وصار صادقًا به، أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقًا بالمعجزة.
وقرئ: {وصدق به}.
انتهى، يعني: مبنيًّا للمفعول مشددًا.
وقال صاحب اللوامح: جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله، أي في قوله، أو في مجيئه، فاجتمع له الصفتان من الصدق: من صدقه من عند الله، وصدقه بنفسه، وذلك مبالغة في المدح. انتهى.
{لهم ما يشاءون} عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم.
و{ليكفر} متعلق بالمحسنين، أي الذين أحسنوا ليكفر، أو بمحذوف، أي يسر ذلك لهم ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير.
و{أسوأ الذي عملوا} هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام.
والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، فقيل: ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه.
وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي، وهذا قول المرجئة، يقولون: لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان.
واحتج بهذه الآية، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين، أي ذلك جزاؤهم، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب.
والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ما هو دونه أحرى.
وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سيء الذين عملوا.
ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيى، عن ابن كثير: {أسوأ} هنا؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه.
والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل: لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه، وإن تخلف عنه بالتقصير.
وقيل: بأحسن ثواب أعمالهم.
وقيل: بأحسن من عملهم، وهو الجنة، وهذا ينبو عنه {بأحسن الذي}.
وقال الزمخشري: أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن.
انتهى، وهو على رأى المعتزلة، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله، وذلك توزيع في أفعل التفضيل، وهو خلاف الظاهر.
قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء، فأنزل الله: {أليس الله بكاف عبده} أي شر من يريده بشر، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير، أي هو كاف عبده، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه.
وقرأ الجمهور: {عبده} وهو رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
وقرأ أبو جعفر، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي: عباده بالجمع، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين؛ {ويخوفونك بالذين من دونه} وهو الأصنام.
ولما بعث خالدًا إلى كسر العزى، قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء.
فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف.
وفي قوله: {ويخوفونك} تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر.
ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وقرئ: {بكافي عبده} على الإضافة، ويكافي عباده مضارع كفى، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظظ المبالغة، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن، كقوله: {فسيكفيكم الله} ويحتمل أن يكون مهموزًا من المكافأة، وهي المجازاة، أي يجزيهم أجرهم.
ولما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثًا باطلًا.
ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين، أخبر أن ذلك كله هو فاعله، ثم قال: {أليس الله بعزيز} أي غالب منيع، {ذي انتقام} وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين.
ولما أقروا بالصانع، وهو الله، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد.
فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضرًا ولا تمسك رحمة، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك.
وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول، وهو ما يدعون.
وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيرًا لها وتعجيزًا وتضعيفًا.
وكان فيها من سمى تسمية الإناث، كالعزى ومناة واللات، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها، لأنهم خوفوه مضرتها، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله.
ثم استخبرهم عن أصنامهم، هل تدفع شرًّا وتجلب خيرًا؟ وقرأ الجمهور: {كاشفات} و{ممسكات} على الإضافة؛ وشيبة، والأعرج، وعمرو بن عبيد، وعيسى: بخلاف عنه؛ وأبو عمرو، وأبو بكر؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما.
ولما تقرر أنه تعالى كافيه، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه، أي كافية.
والجواب في هذا الاستخبار محذوف، والتقدير: فإنهم سيقولون: لا تقدر على شيء من ذلك.
وقال مقاتل: استخبرهم فسكتوا.
{قل يا قوم اعملوا} تقدم الكلام على نظيرها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
استفهام والمراد منه التقرير؛ فاللَّهُ كافٍ عَبْدَه اليومَ في عرفانه بتصحيح إيمانه ومَنْع الشِّرْكِ عنه، وغدًا في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايتهُ تامة وسلاَمته عامة.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} قَرَّرَ عليهم عُلُوَّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرُّوا بذلك، ثم طالَبَهم بِذكْرِ صفاتِ الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبُعَدِ عن الحياة والعِلْم والقدرةِ والتمكُّنِ من الخَلْقِ، فيقول: كيف أشركتم به هذه الأشياء؟ وهلاَّ استحيَيْتُم من إطلاق أمثال ذلك في صفته؟
قُلْ- يا محمد- حَسْبِيَ الله، عليه يتوكل المتوكلون؛ كافِيَّ اللَّهُ المتفرِّدُ بالجلالِ، القادرُ على ما يشاء، المتَفَضِّلُ عليَّ بما يشاء.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)} سوف ينكشف رِبْحُنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جوابَ لكم، ونُعَذِّبُكُم فلا شفيعَ لكم، ونُدَمِّرُ عليكم فلا صريخَ لكم.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} مَنْ أحسن فإحسانهُ إلى نَفْسه اكتَسبَه ومَنْ أساء فبلاؤه على نفسه جَلَبَه- والحقُّ غنيٌّ عن التجمُّلِ بطاعةِ مَنْ أقبل والتنقُّصِ بِزَلَّةِ مَنْ أعرض. اهـ.