فصل: تفسير الآيات (42- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (42- 45):

قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادرًا عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له- صلى الله عليه وسلم، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلًا، فقال: {الله} أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} التي ماتت عند انقضاء آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئًا منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها {حين موتها} أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله: {والتي} أي ويتوفى الأنفس التي {لم تمت} لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة {في منامها} بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجودًا مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلًا من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى.
ولما كان النوم منقضيًا، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضًا منقض، ولابد لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله: {فيمسك} أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده {التي قضى} أي ختم وحكم وبت بتًا مقدرًا مفروغًا منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة {عليها الموت} مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطًا بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطًا بها {ويرسل الأخرى} أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة {إلى أجل مسمى} لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعًا السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة- انتهى.
روى الطبراني في الأوسط- قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح- عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنهان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولًا دليلًا على تقدير مثله في النوم ثانيًا، والمنام ثانيًا دليلًا على حذف الممات أولًا.
ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكدًا قرعًا بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه {لآيات} أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده {لقوم} أي ذوي قوة في مزاولة الأمور.
ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال: {يتفكرون} أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات: إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهرًا وباطنًا، وذلك هو الحياة مع اليقظة، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهرًا لا باطنًا، وذلك بالنوم، وثالثها انقطاع ذلك ظاهرًا وباطنًا وهو بالموت، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام، والنوم انقطاع ناقص، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلًا منهما من الآخر إلا هو سبحانه، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك.
ولما أنتج هذا ولابد نحو أن يقال توعدًا لهم: هل علموا أنه لا يقوم شيء مقامه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، ولا يقرب أحد من القدرة على شيء من فعله، فكيف بالقرب من رتبته فضلًا عن مماثلته، فرجعوا عن ضلالهم، عادله بقوله: {أم اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندها أن أخذوا {من دون الله} أي الذي لا مكافئ له مداني {شفعاء} أي تقربهم إليه زلفى في الدنيا وفي الآخرة على تقدير كونها مع قيام الأدلة الشهودية عندهم على أنه لا يشفع أحد إلا عند من يصح أن يكافئه بوجه من الوجوه، ولذلك نبه على المعنى بقوله معرضًا عنهم إشارة إلى سفولهم عن الفهم: {قل أولو} أي أيتخذونهم لذلك ولو {كانوا لا يملكون شيئًا} أي لا تتجدد لهم هذه الصفة {ولا يعقلون} كما يشاهد من حال أصنامكم.
ولما نفى صلاحية أصنامهم لهذا الأمر، أشار إلى نفيه عما سواه بقصر الأمر عليه فقال: {قل لله} أي المحتوي على صفات الكمال وحده {الشفاعة} أي هذا الجنس {جميعًا} فلا يملك أحد سواه منها شيئًا لكنه يأذن إن شاء فيما يريد منها لمن لمن يشاء من عباده.
ولما كان كل ما سواه ملكًا له، وكان من المقرر أن المملوك لا يصح أن يملك شيئًا يملكه سيده، لأن الملكين لا يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة، علل ذلك بقوله: {له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} أي التي لا تشاهدون من ملكه سواهما والشفاعة من ملكهما.
ولما كان المملوك ملكًا ضعيفًا قد يتغلب على مالكه فيناظره فيتأهل للشفاعة عنده، نفى ذلك في حقه سبحانه بقوله دالًا على عظمة القهر بأداة التراخي فقال: {ثم إليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} معنى في الدنيا بأن ينفذ فيكم جميع أمره وحسًا ظاهرًا ومعنى في الآخرة.
ولما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه، وختم بأنه لابد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه، ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره، ذكر حالًا من أحوالهم فقال: {وإذا} أي الحال ما ذكرناه وإذا {ذكر} وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيمًا لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال: {الله} أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه {وحده} أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم: {اشمأزّت} أي نفرت كراهية وذعرًا واستكبارًا مع تمعر الوجه وتقبضه قلوبهم- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {قلوب الذين لا يؤمنون} أي لا يجددون إيمانًا {بالآخرة} بيانًا لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع إليه الذي أتمه وأظهره رجوع الآخرة {وإذا ذكر الذين} وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال: {من دونه} أي الأوثان، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل، أو سماع لقال أو قيل، بقوله: {إذا هم} أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم {يستبشرون} أي فاجؤوا طلب البشر وإيقاعه وتجديده على سبيل الثبات في ذلك كله سواء ذكر معهم الله أو لا، فالاستبشار حينئذ إنما هو بالانداد، والاشمئزاز والاستبشار متقابلان لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غمًا وغيظًا فيظهر أثره، وهو الانقباض في أديم الوجه، والاستبشار: امتلاء القلب سرورًا حتى يظهر أثره، وهو الانبساط والتهلل في الوجه- قال الزمخشري، والعمل في إذا الأولى هو العامل في الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار وقت هذا الذكر، وعبر بالفعل أولًا وبالاسمية ثانيًا، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحًا لمطلق الكفر، ثم الثبات عليه فتحًا لباب التوبة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سببًا لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا وجه النظم في الآية، وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام.
المسألة الثانية:
المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله: {وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى، وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة، ولكن لابد فيه من مزيد بيان، فنقول النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة، فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت، وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه، وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها: أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها: أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها: أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفيًا للنفس، ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم، وهو المراد من قوله: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلهًا موصوفًا بهذه القدرة وبهذه الحكمة وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك، واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالًا، فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ} وتقرير الجواب أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها والأول: باطل لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئًا ولا تعقل شيئًا فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها والثاني: باطل لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئًا ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعًا} ثم بين أنه لا ملك لأحد غير الله بقوله: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ومنهم من تمسك في نفي الشفاعة مطلقًا بقوله تعالى: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعًا} وهذا ضعيف لأنا نسلم أنه سبحانه ما لم يأذن في الشفاعة لم يقدر أحد على الشفاعة، فإن قيل قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} فيه سؤال لأن هذا يدل على أن المتوفى هو الله فقط، وتأكد هذا بقوله: {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وبقوله: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وبقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] ثم إن الله تعالى قال في آية أخرى: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وقال في آية ثالثة: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] وجوابه أن المتوفي في الحقيقة هو الله، إلا أنه تعالى فوض في عالم الأسباب كل نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة، ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو رئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في هذه الآية إلى الله تعالى بالإضافة الحقيقية، وفي الآية الثانية إلى ملك الموت لأنه هو الرئيس في هذا العمل وإلى سائر الملائكة لأنهم هم الأتباع لملك الموت، والله أعلم.
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين، وهو أنك إذا ذكرت الله وحده تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرت آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة، فهو رأس الجهالات والحماقات، فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد، قال صاحب الكشاف وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورًا حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية. اهـ.

.قال القرطبي:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي يقبضها عند فناء آجالها {والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} اختلف فيه.
فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها؛ قاله ابن عيسى.
وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها.
قال: وقد يكون توفيها نومها؛ فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها.
وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.