فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نعم لعلك تختاره وكأنك تقول: إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادًا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها، فمتى رأت وهي في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة، ومتى رأت وهي راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الأفراد فيما يكون من الاستعداد، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته، والتنوين في {ءايات} للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينًا بعد حين إلى انقضاء آجالها.
{أَمِ اتخذوا} أي بل اتخذ قريش فأم منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم {مِن دُونِ الله شُفَعَاء} تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب، وقيل: في أمورهم الدنيوية والأخروية، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه، ومعنى {مِن دُونِ الله} من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من أذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أو اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤل لما ذكر {قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ} أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئًا من الأشياء وعدم وعقلهم إياه، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف.
وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة {لَّوْ كَانُواْ لاَّ يَمْلِكُونَ} الخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئًا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون، والمعنى على الحالية أيضً كأنه قيل: أيشفعون على كل حال، وقال بعض المحققين من النحاة: إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقًا به معنى مستأنفًا لفظًا على طريق الالتفات كقوله:
فأنت طلاق والطلاق ألية

وقوله:
ترى كل من فيها وحاشاك فانيا

وقد تجىء بعد تمام الكلام كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية.
وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئًا من الأشياء فضلًا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون.
{قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعًا} لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهوان الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونًا له وكلاهما مفقودان ههنا، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أو الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقًا في غاية الضعف.
وقوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعًا له عز وجل كأنه قيل: له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عطف على قوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ} الخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عز وجل.
وجوز أن يكون عطفًا على قوله تعالى: {لِلَّهِ الشفاعة} وجعله في البحر تهديدًا لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم، وتقديم {إِلَيْهِ} للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالًا ولا اشتراكًا ترجعون.
{وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} أي مفردًا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم، وقيل: أي إذا قيل لا إله إلا الله {اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدربارهم نفورًا} [الإسراء: 46] {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} فرادى أو مع ذكر الله عز وجل {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلىء القلب سرورًا حتى ينبسط له بشرة الوجه، والاشمئزاز أن يمتلىء غيظًا وغمًا ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون، و{إِذَا} الأولى: شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو {اشمأزت} أو الفعل الذي يليها وهو {ذُكِرَ} عند أبي حيان وجماعة، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم، وكذا {إِذَا} الثانية: فالعامل فيها إما {ذُكِرَ} بعدها وإما {يَسْتَبْشِرُونَ} و{إِذَا} الثالثة: فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها، وقال الزمخشري: عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤا وقت الاستبشار فهي مفعول به، وجوز أن تكون فاعلًا على معنى فاجأهم وقت الاستبشار، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناءً على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبًا على الظرفية.
نعم قيل على الزمخشري: إنه لا سلف له فيما ذهب إليه، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره، ومن العجيب قول الحوفي إن {إِذَا} الثالثة ظرفية جىء بها تكرارًا لإذا قبلها وتوكيدًا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلًا، والآية في شأن المشركين مطلقًا.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} بأبي جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبي بن خلف، وفسر {الذين مِن دُونِهِ} باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {والنجم} [النجم: 1] عند باب الكعبة: وهذا أيضًا لا ينافي العموم كما لا يخفى، وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له: قل يا ألله فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة، قد جاء فيها ذكر القرآن الكريم، الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه- صلوات اللّه وسلامه عليه- هدى ورحمة للناس، وروحا وحياة للنفوس.
وفى هذه الآية بيان لمصير النفس الإنسانية، وأنها صائرة إلى اللّه، بما تحمل من هدى أو ضلال، وبما معها من نور القرآن، أو ظلام الشرك.
فقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} أي يردها إليه، ويوفّيها حسابها، حين يجىء أجلها، وتستوفى حياتها المقدورة لها في الدنيا.
وقوله تعالى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} أي ويتوفى الأنفس في منامها.
فالجار والمجرور في منامها متعلق بقوله تعالى: {يَتَوَفَّى}. وعلى هذا يكون معنى الآية: اللّه يتوفى الأنفس ويردها إليه حين يقبضها بالموت، أو بالنوم.
وقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو بيان للأنفس التي يردها اللّه سبحانه وتعالى إليه، حين يغشى النوم أصحابها.. فهذه النفوس، إن كانت قد استوفت أجلها في الدنيا أمسكها اللّه عنده فلا تعود إلى الجسد مرة أخرى، وإن كان قد بقي لها في الحياة أجل، أرسلها لتعود إلى الجسد مرة أخرى، حتى ينتهى أجلها المقدور لها في الدنيا.
فاللّه سبحانه وتعالى يردّ الأنفس إليه حين الموت، وحين النوم، إلا أنه في حال الموت يمسكها عنده إلى يوم القيامة، أما في حال النوم، فإن كانت النفس قد استوفت أجلها في الدنيا أمسكها اللّه عنده، وإن لم تكن قد استوفت أجلها، أرسلها لتعود إلى جسدها، حتى ينتهى أجلها في الدنيا.
ومن هذا يرى المرء أنه يموت كل يوم، وأن نفسه التي تلبسه تردّ إلى اللّه عند النوم، ثم يبعث من جديد في اليقظة حين تعود إليه نفسه التي فارقت بدنه.
وهكذا تتكرر عملية الموت والبعث كل يوم في ذات الإنسان.. ومع هذا ينكر الضالون البعث بعد الموت، وهم يرون هذه الحقيقة في أنفسهم.. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا السفه سفه؟ {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ولكن أين من يتفكر؟ إنهم قلة قليلة في هذا المحيط الصاخب المضطرب بالضالين السفهاء! بين النفس. والروح.. والجسد وهنا نود أن نقف قليلا بين يدى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
فقد أشارت الآية الكريمة إلى أن في الإنسان نفسا، وأن هذه النفس تردّ إلى اللّه، على حين يترك الجسد لمصيره في التراب.
فالإنسان إذن نفس وجسد.. وهما طبيعتان مختلفان.. فالنفس من العالم العلوي، والجسد من عالم التراب، وأنهما إذ يجمع اللّه بينهما بقدرته، فيجعل منهما- سبحانه- كائنا سويّا هو الإنسان، فإنه- سبحانه. بقدرته كذلك يحفظ لكل منهما طبيعته، حتى إذا انتهى الأجل الذي قدره اللّه لاجتماعهما، افترقا، فلحق كل منهما بعالمه، الذي هو منه.. النفس إلى عالمها العلوىّ، والجسد إلى عالمه الترابىّ.
وقبل أن نتحدث عن ماهية النفس، وعن الآثار التي تتركها في الجسد، أو يتركها الجسد فيها. حين اجتماعهما- نود أن نشير إلى كائن آخر، يعيش مع الجسد والنفس، هو الروح فقد أشار القرآن الكريم إلى الروح، فقال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وإذن فهناك:
الجسد، والروح، والنفس، وثلاثتها هي الإنسان.
فما الجسد؟ وما الروح؟ وما النفس؟
وليس ثمة خلاف في أن الجسد، هو هذا الكيان من اللحم، والعظم، والدم، والذي هو المظهر المادي للإنسان.
أما الروح، وأما النفس فهما قوتان غيبيتان تسكنان إلى هذا الجسد، فيكون بهما معا هذا الإنسان الحي، السميع، البصير، العاقل المميز بين الخير والشر، والنافع والضار.
والسؤال هنا: هل الروح والنفس حقيقة واحدة، أم هما حقيقتان؟ وإذا كانتا حقيقتين، فهل هما من طبيعة واحدة أم من طبيعتين مختلفتين كالاختلاف الذي بينهما وبين الجسد؟
إن القرآن الكريم يحدثنا عن الروح، وعن النفس.
وفى حديث القرآن عن الروح. نجد أنها نفحة الحياة في الإنسان، وأنها من روح اللّه، فيقول سبحانه في خلق آدم: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} (29 الحجر) ويقول سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (9: السجدة) ويقول سبحانه في خلق عيسى عليه السلام: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا} (12: التحريم).
فالرّوح هي مبعث الحياة في الإنسان، وهى التي تخرج هذا الجسد الهامد إلى عالم الحياة والحركة.
والإنسان في هذه الحدود، لا يخرج عن كونه حيوانا، ذا جسد حىّ، يتنفس، ويتحرك ويطلب الغذاء الذي يحفظ حياته.
فهل للحيوان روح كهذه الروح التي تلبس الإنسان، وتكسوه حياة وحركة؟
إننا إذا رجعنا إلى قوله تعالى عن الروح: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} تجد أن الروح التي تلبس الكائن الحي- من إنسان أو حيوان- هي روح، وهى من أمر اللّه! ولكننا إذ ننظر في قوله تعالى في خلق آدم: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وقوله سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} نجد مزيدا من؟؟؟ الإحسان والتكريم للإنسان، بإضافة روحه إلى اللّه سبحانه وتعالى.
وهذه الإضافة تضفى على روح الإنسان صفاء إلى صفاء، وقوة إلى قوة.
وإنه إذا كان لا حديث للعلم في هذا الأمر الغيبىّ، فإن المشاهدة تدعونا إلى القول بأن الأرواح التي تلبس الكائنات الحية- بما فيها الإنسان- ليست على درجة واحدة من القوة التي تنبعث منها في الكائن الحي، وفى الآثار التي تحدثها فيه.
ففى عالم الحيوان مثلا.. نجد من الحيوانات مالا تكاد تحسّ فيه الحياة، كالديدان مثلا، كما نجد حيوانات تكاد تعقل، كالقردة.. وبين هذه وتلك أنماط كثيرة من الحيوات التي تلبس عالم الحيوان.
وهذا يعنى أن اختلافا ما بين روح وروح إن لم يكن في النوع ففى القدر، وفى الدرجة.
ومن جهة أخرى، فإننا نجد في عالم البشر أناسا لا يبتعدون كثيرا عن عالم الحيوان، بينما نجد الذكاء والألمعية والعبقرية في أناس آخرين.
وهؤلاء وأولئك جميعا يلبسون أرواحا من مورد واحد، هي نفخة اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان.. وهذا يعنى أن الاختلاف في الأرواح البشرية ليس في النوع، وإنما في القدر والدرجة.. أيضا.. بمعنى أن الاختلاف بين إنسان وإنسان في العقل، والذكاء، والبصيرة، هو اختلاف في القدر الذي كان للجسد من عالم الروح، وفى الكمية- إن صح هذا التعبير- التي فاضت عليه من هذا العالم!! وهذا أيضا ما يشير إليه الفلاسفة في حديثهم عن الروح، وأن كل جسد إنما تلبسه روح خاصة به، مقدرة بحسب استعداده الفطري، وقدرته على احتمال ما يفاض عليه منها.