فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين. الطمأنينة التي لا تخاف. والثقة التي لا تقلق. واليقين الذي لا يتزعزع والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}.
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم. إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق. وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا، ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة.
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود.. إن الله هو خالق السماوات والأرض. القاهر فوق السماوات والأرض. وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة. فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئًا أو لدعاته؟ ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضرًا أو يمسك عنهم رحمة؟ وإذا لم يكن. فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله؟
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق؛ ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال!
تلك حقيقة الوضع بين رسل الله وسائر قوى الأرض التي تقف لهم في الطريق. فما حقيقة وظيفتهم وما شأنهم مع المكذبين؟
{إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعًا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون}.
{إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق}.. الحق في طبيعته. والحق في منهجه. والحق في شريعته. الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؛ ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق. هذا الحق نزل {للناس} ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه. وأنت مبلغ. وهم بعد ذلك وما يشاءون لأنفسهم من هدى أو ضلال، ومن نعيم أو عذاب. فكل مورد نفسه ما يشاء؛ وما أنت بمسيطر عليهم ولا بمسؤول عنهم: {فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل}.
إنما الوكيل عليهم هو الله. وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم، وهو يتصرف بهم كما يشاء: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}.
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت. وهو يتوفاها كذلك في منامها وإن لم تمت بعد ولكنها في النوم متوفاة إلى حين. فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ. والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو. إلى أن يحل أجلها المسمى. فالأنفس في قبضته دائمًا في صحوها ونومها.
{إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
إنهم هكذا في قبضة الله دائمًا. وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها. وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين.. فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص؟
{أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعًا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون}.
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى! {أو لو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون}.. يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعًا. فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء. فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء؟!
{له ملك السماوات والأرض}.. فليس هنالك خارج على إرادته في هذا الملك.
{ثم إليه ترجعون}.. فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف.
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}.
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد. ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان. فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهًا، وإلى شريعة الله وحدها قانونًا، وإلى منهج الله وحده نظامًا. حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد. هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجًا منهم في هذه الآية، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان. هم الممسوخو الفطرة، المنحرفو الطبيعة، الضالون المضلون، مهما تنوعت البيئات والأزمنة، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام.
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في مواجهة مثل هذه الحال: {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}.
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض؛ ويتعذر عليها أن تجد لها خالقًا إلا الله فاطر السماوات والأرض، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار.
وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض: {عالم الغيب والشهادة} المطلع على الغائب والحاضر، والباطن والظاهر.
{أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}.. فهو وحده الحكم يوم يرجعون إليه. وهم لابد راجعون.
وبعد هذا التلقين يعرض حالهم المفزعة يوم يرجعون للحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.
إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب. فلو أن لهؤلاء الظالمين الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم لو أن لهؤلاء {ما في الأرض جميعًا}.. مما يحرصون عليه وينأون عن الإسلام اعتزازًا به.
{ومثله معه}.. لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة.
وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
ولا يفصح عما بدا لهم من الله ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف.. فهو الله. الله الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون! هكذا بلا تعريف ولا تحديد!
{وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.
وهذه كذلك تزيد الموقف سوءًا. حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا؛ وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير. وهم في ذلك الموقف الأليم الرعيب.
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة. بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب. فهم ينكرون وحدانية الله. فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين. حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون: {فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيه على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
والآية تصور نموذجًا مكررًا للإنسان، ما لم تهتد فطرته إلى الحق، وترجع إلى ربها الواحد، وتعرف الطريق إليه، فلا تضل عنه في السراء والضراء.
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل: {إنما أوتيته على علم}.. قالها قارون، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلًا عن مصدر النعمة، وواهب العلم والقدرة، ومسبب الأسباب، ومقدر الأرزاق.
{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
هي فتنة للاختبار والامتحان. ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر وإن كان سيصلح بها أم سيفسد وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال.
والقرآن- رحمة بالعباد- يكشف لهم عن السر، وينبهم إلى الخطر، ويحذرهم الفتنة. فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان.
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم. مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} {قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم، فانتهت بهم إلى السوء والوبال. ولم يغن عنهم علمهم ولا ما لهم ولا قوتهم شيئا. وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنة اللّه لا تتبدل {وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.. فاللّه لا يعجزه خلقه الضعاف المهازيل! فأما ما أعطاهم اللّه من نعمة، وما وهبهم من رزق، فإنه يتبع إرادة اللّه وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق وقبضه، ليبتلي عباده، ولينفذ مشيئته كما يريد: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.. فلا يجعلوا آيات اللّه سببا في الكفر والضلال. وهي جاءت للهدى والإيمان. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض}.
الينابيع: جمع ينبوع، وهو الماء الكثير.
وقوله: فسلكه أي أدخله، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية، والآيات القرآنية في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] الآية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [سبأ: 2] الآية.
قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه}.
قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وأحلنا عليه في سورة فاطر، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] الآية.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب}.
قوله ثم يهيج: أي ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفرًا يابسًا، قد زالت خضرته ونضارته. ثم يجعله حطامًا أي فتاتًا، متكسرًا، هشيمًا، تذروه الرياح، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع، المختلف الألوان، لذكرى أي عبرة وموعظة وتذكيرًا لأولي الألباب، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير، وبين في موضع آخر، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضًا بالدنيا. فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20]. ويبين في سورة الروم أن أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليهن وذلك في قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51].
قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}.
قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام: في الكلام على قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125].
قوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: 37] الآية، وفي غير ذلك من الموضع.
قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [الكهف: 12] الآية. وقوله في هذه الآية الكريمة: قرآنًا انتصب على الحال وهي حال مؤكدة، والحال والحال في الحقيقة هو عربيًا، وقرآنًا توطئة له وقيل انتصب على المدح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: عربيًا، أي لأنه بلسان عربي كما قال تعالى: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]. وقال تعالى في أول سورة يوسف {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. وقال في أول الزخرف {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. وقال في طه {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] وقال تعالى في فصلت: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] وقال تعالى في الشعراء {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 193- 195] وقال تعالى في سورة شورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] الآية. وقال تعالى في الرعد {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها، دلالة لا ينكرها إلا مكابر.
قوله تعالى: {والذي جَاءَ بالصدق} الآية.
أوضح جل وعلا، أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين، بدليل قوله بعده {أولئك هُمُ المتقون لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المحسنين} [الزمر: 33- 34].
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الذي تأتي بمعنى الذين، في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلة ذلك في القرآن، قوله تعالى في آية الزمر هذه: {والذي جَاءَ بالصدق} الآية. وقوله تعالى في سورة البقرة {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا} [البقرة: 17] أي الذين استوقدوا بدليل قوله بعده: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] وقوله فيها أيضًا {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ الناس} [البقرة: 264] أي كالذين ينفقون بدليل قوله بعده {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} [البقرة: 264] الآية. وقوله تعالى في التوبة {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي:
فبت أساقي القوم إخوتي الذي ** غوايتهم غيٌّ ورشدهم رشد

وقول الراجز:
يا رب عبس لا تبارك في أحد ** في قائم منهم ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} [النحل: 31] الآية.