فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ العامَّةُ {مثانيَ} بفتح الياء صفةً ثانية أو حالًا أخرى أو تمييزًا منقولًا من الفاعلية أي متشابهًا مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري. وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها، وفيها وجهان:
أحدُهما: أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالًا للحركةِ عليه كقراءة {تُطْعِمُوْن أهاليْكم} وقوله: كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ ونحوِهما.
والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو مثاني، كذا ذكره الشيخ. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال: مثانٍ، كما تقول: هؤلاء جوارٍ. وقد يُقال: إنه وُقِفَ عليه. ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه: بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو: هذا قاضٍ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ. ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو: {مِنْ والي} و{باقي} و{هادي} في قراءة ابن كثير.
قوله: {تَقْشَعِرُّ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لكتاب، وأَنْ تكونَ حالًا منه لاختصاصِه بالصفةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً. واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف، وقَفَّ شعرُه. والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضًا. ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ. ووزنُ القُشَعْرِيرة: فَعَلِّيْلَة.
و{مَثاني} جمعُ مَثْنى؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير. وإنما وُصِفَ {كتاب} وهو مفردٌ بمثاني، وهو جمعٌ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ، أو هو من باب: بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ. كذا قال الزمخشري: وقيل: ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي: فصولًا مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه.
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}.
قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ منصوبًا على المدح؛ لأنه لَمَّا كان نكرةً امتنع إتباعُه للقرآن. الثاني: أَنْ ينتصِبَ ب {يتذكَّرون} أي: يتذكَّرون قرآنًا. الثالث: أن ينتصبَ على الحال مِن القرآن على أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ، وتُسَمَّى حالًا موطئة لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ {عربيًا} و{قرآنًا} توطئةٌ له نحو: جاء زيدٌ رجلًا صالحًا. قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} نعتٌ ل {قرآنًا} أو حالٌ أخرى. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: مستقيمًا أو غيرَ مُعْوَج. قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفيُ أَنْ يكونَ فيه عِوَجٌ قط كما قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]. والثاني: أنَّ العِوَجَ يختصُّ بالمعاني دونَ الأعيان. وقيل: المرادُ بالعِوَجِ الشكُّ واللَّبْسُ. وأنشد:
وقد أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ ** من الإِلهِ وقولٌ غيرُ مَكْذوبِ

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}.
قوله: {فِيهِ شُرَكَاءُ} يجوزُ أَنْ يكونَ هذا جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب صفةً لرجل، ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ الجارَّ وحدَه، و{شركاءُ} فاعلٌ به، وهو أَوْلَى لقُرْبه من المفردِ و{مُتَشاكِسُوْن} صفةٌ لشركاء. والتشاكُسُ: التخالُفُ. وأصلُه سوءُ الخُلُقِ وعُسْرُه، وهو سببُ التخالُفِ والتشاجُر. ويقال: التَّشاكس والتشاخُسُ بالخاء موضع الكاف. وقد تقدَّم الكلامُ على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد {ضَرَب}. وقال الكسائي: انتصَبَ {رجلًا} على إسقاط الجارِّ أي: لرجل أو في رجل.
وقوله: {فيه} أي: في رِقِّه. وقال أبو البقاء كلامًا لا يُشْبه أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مثله، بل ولا أَقَلَّ منه. قال: وفيه شركاءُ الجملةُ صفةُ ل رجل وفي متعلقٌ بمتشاكسون. وفيه دلالةٌ على جوازِ تقديمِ خبرِ المبتدأ عليه انتهى. أمَّا هذا فلا أشُكُّ أنه سهوٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَه جملةً كيف يقول بعد ذلك: إن {فيه} متعلقٌ ب {متشاكسون}؟ وقد يقال: أراد مِنْ حيث المعنى، وهو بعيدٌ جدًّا. ثم قوله: وفيه دلالةٌ إلى آخره يناقضه أيضًا. وليست المسألةُ غريبةً حتى يقولَ: وفيه دلالة. وكأنه أراد: فيه دلالةٌ على تقديم معمولِ الخبر على المبتدأ، بناءً منه على أنَّ {فيه} يتعلق ب {مُتشاكسون} ولكنه فاسدٌ، والفاسدُ لا يُرام صَلاحُه.
قوله: {سَلَمًا لرَجُلٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ {سالمًا} بالألفِ وكسرِ اللام. والباقون {سَلَمًا} بفتح السين واللام. وابن جبير بكسرِ السينِ وسكونِ اللام. فالقراءةُ الأولى اسمُ فاعلٍ مِنْ سَلِمَ له كذا فهو سالمٌ. والقراءاتان الأُخْرَيان سَلَمًا وسِلْمًا فهما مَصدران وُصِف بهما على سبيل المبالغةِ، أو على حَذْفِ مضافٍ ما، أو على وقوعِهما موقعَ اسمِ الفاعل فتعودُ كالقراءةِ الأولى. وقُرِئ {ورجلٌ سالِمٌ} برفعِهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدًا، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: وهناك رجلٌ سالمٌ لرجلٍ، كذا قَدَّره الزمخشري. الثاني: أنه مبتدأٌ و{سالمٌ} خبرُه. وجاز الابتداءُ بالنكرةِ؛ لأنه موضعُ تفصيلٍ، كقولِ امرئِ القيس:
إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ** بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ

وقولهم: الناسُ رجلان رجلٌ أكرمْتُ، ورجلٌ أَهَنْتُ.
قوله: {مَثَلًا} منصوبٌ على التمييزِ المنقولِ من الفاعليةِ إذ الأصلُ: هل يَسْتَوي مَثَلُهما. وأُفْرد التمييزُ لأنه مقتصرٌ عليه أولًا في قولِه: {ضَرَبَ الله مَثَلًا}. وقرِئَ {مِثْلَيْن} فطابَقَ حالَيْ الرجلين. وقال الزمخشري فيمَنْ قرأ {مِثْلين} إنَّ الضميرَ في {يَسْتَويان} للمِثْلين؛ لأنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ، ومثلَ رجلٍ.
والمعنى: هل يَسْتويان فيما يَرْجِعُ إلى الوصفيَّة كما تقول: كفى بهما رجلين.
قال الشيخ: والظاهرُ أنه يعود الضميرُ في {يَسْتَويان} على {رَجُلَيْن}. وأمَّا إذا جَعَلْتَه عائدًا إلى المِثْلَيْنِ اللذيْن ذَكَرَ أنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ ومِثْلَ رجلٍ؛ فإنَّ التمييزَ يكون إذ ذاك قد فُهِمَ من المميَّز الذي هو الضميرُ؛ إذ يصيرُ التقدير: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلين. قلت: هذا لا يَضُرُّ؛ إذ التقديرُ: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلَيْن في الوصفيةِ فالمِثْلان الأوَّلان مَعْهودان، والثانيان جنسان مُبْهمان كما تقول: كَفَى بهما رجلَيْن؛ فإنَّ الضميرَ في {بهما} عائدٌ على ما يُراد بالرجلين فلا فَرْقَ بين المسألتين. فما كان جوابًا عن كفَى بهما رجلين يكونُ جوابًا له.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}.
قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} العامَّةُ على {مَيِّت} و{مَيِّتون}. وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي عبلة واليماني {مائِتٌ ومائتون} وهي صفةٌ مُشْعِرَةٌ بحدوثِها دون مَيِّت. وقد تقدَّمَ أنَّه لا خلافَ بين القرَّاءِ في تثقيلِ مثلِ هذا.
{ثم إنكم} تغليبًا للمخاطبِ، وإنْ كان واحدًا في قوله: {إنَّك} على الغائبين في {وإنَّهم}.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)}.
قوله: {والذي جَاءَ} بالصدق لَفْظُه مفردٌ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ. وقيل: لأنه قُصِدَ به الجزاءُ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ {الذي} موقع الذين، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه: {أولئك هُمُ المتقون} كما رُوْعِيَ معنى مَنْ في قولِه: {للكافرين} فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ: مثوىً لهم. وقيل: بل الأصلُ: والذين جاء بالصدق، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفًا، كقولِه: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع، فكان يُقال: والذي جاؤوا، كقوله: {كالذي خاضُوا}. ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى، كقولِه:
أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ** قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا

ولجاءَ كقوله:
وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ** همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ

وقرأ عبدُ الله {والذي جَآؤوا بالصدق وَصَدَّقَوا بِهِ} وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها. وقيل: الذي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ بمعنى الجمعِ، تقديرُه: والفريق أو الفوج ولذلك قال: {أولئك هُمُ المتقون}. وقيل: المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ، فقال: {أولئك هم} كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49]. قاله الزمخشري وعبارتُه: هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومَه. وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال: وإصلاحُه أَنْ يقولَ: أراده به كما أراده بموسى وقومِه. قلت: ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم به وبموسى لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131]، وقوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1]: وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ. وقولُ الزمخشريِّ: إن الضميرَ في {لعلهم يَهْتدون} لموسى وقومِه فيه نظرٌ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ. وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية. وقال الزمخشري أيضًا: ويجوز أن يريدَ: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به، وهم: الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به. قال الشيخ: وفيه توزيعُ الصلةِ، والفوجُ هو الموصولُ، فهو كقولِك: جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى.
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان ومحمد بن جُحادة مخففًا بمعنى صَدَقَ فيه، ولم يُغَيِّرْه. وقُرِئ {وصُدِّق به} مشدَّدًا مبنيًّا للمفعول.
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}.
قوله: {لِيُكَفِّرَ} في تعلُّقها وَجْهان:
أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفِّرَ.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المحسنين، كأنه قيل: الذين احسنوا ليُكَفِّرَ أي: لأجلِ التكفير.
قوله: {أسْوَأَ الذي} الظاهرُ أنَّه أَفْعَلُ تفضيل، وبه قرأ العامَّةُ. وقيل: ليسَتْ للتفضيل بل بمعنى سَيِّئَ الذي عمِلوا كقولِهم: الأَشَجُّ والناقص أعدلُ بني مروان، أي: عادلاهم. ويَدُلُّ على هذا قراءةُ ابنِ كثير في رواية {أَسْواءَ} بألفٍ بين الواوِ والهمزةِ بزنَةِ أَحْمال جمعَ سُوء، وكذا قرأ في حم السجدة.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)}.
قوله: {بِكَافٍ عَبْدَهُ} العامَّةُ على توحيدِ {عبدَه} والأخَوان {عبادَه} جمعًا وهم الأنبياءُ وأتباعُهم. وقُرِئ {بكافي عبادِه} بالإِضافة. و{يُكافى} مضارعُ كافى، {عبادَه} نُصِب على المفعولِ به. ثم المفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى فَعَل نحو: نُجازي بمعنى نَجْزي، وبُنِيَ على لفظةِ المُفاعلةِ لِما تقدَّم مِنْ أنَّ بناءَ المفاعلةِ يُشْعِ بالمبالغةِ؛ لأنه للمغالبة. ويُحتمل أَنْ يكونَ أصلُه يُكافِئ بالهمزِ، من المكافأة بمعنى يَجْزِيْهم، فخفَّف الهمزةِ.
قوله: {ويُخَوِّفُونَك} يجوزُ أَنْ يكون حالًا؛ إذ المعنى: أليس كافيَك حالَ تَخْويفِهم إياك بكذا، ويَعْلَمُه. كأنَّ المعنى: أنَّه كافيه في كلِّ حالٍ حتى في هذه الحال. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)}.
قوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} هي المتعديةُ لاثنين، أوَّلُهما {ما تَدْعوْن} وثانيهما الجملةُ الاستفهاميةُ. والعائدُ على المفعول منها قولُه: {هُنَّ} وإنما أنَّثَه تحقيرًا لِما يَدْعُون مِنْ دونِه، ولأنهم كانوا يُسَمُّونها بأسماءِ الإِناث: اللات ومَناة والعُزَّى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه مستوفىً في مواضعَ.
قوله: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} قرأ أبو عمرو {كاشفاتٌ} {مُمْسِكاتٌ} بالتنوين ونصبِ {ضُرَّه} و{رحمتَه} وهو الأصلُ في اسم الفاعل. والباقون بالإِضافةِ وهو تخفيفٌ.
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}.
قوله: {والتي لَمْ تَمُتْ} عطفٌ على الأنفس أي: يَتَوفَّى الأنفسَ حين تموتُ، ويَتَوَفَّى أيضًا الأنفسَ التي لم تَمُتْ في مَنامِها. ففي منامِها ظرفٌ ل {يَتَوَّفَى} وقرأ الأخَوان {قُضِيَ} مبنيًّا للمفعول، {الموتُ} رفعًا لقيامَه مَقامَ الفاعلِ.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)}.
وقوله: {أَمِ اتخذوا} {أم} منقطعةٌ فتتقدَّرُ ببل والهمزةِ. وتقدَّم الكلامُ على نحوِ {أَوَلَوْ} وكيف هذا التركيبُ.
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}.
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الذين} قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما العاملُ في إذا ذُكِرَ؟ قلت: العاملُ في إذا الفجائية، تقديرُه: وقتَ ذِكْرِ الذين مِنْ دونِه فاجَؤوا وقتَ الاستبشار. قال الشيخُ: أمَّا قولُ الزمخشريِّ فلا أَعْلَمُه مِنْ قولِ مَنْ ينتمي للنحوِ، وهو أنَّ الظَّرْفَيْنِ معمولان لفاجؤوا ثم إذا الأولى تَنْتَصِبُ على الظرفيةِ، والثانيةُ على المفعول به. وقال الحوفي: {إذا هم يَسْتَبشرون} إذا مضافةٌ إلى الابتداءِ والخبر، وإذا مكررةٌ للتوكيد، وحُذف ما تُضاف إليه. والتقدير: إذا كانَ ذلك هم يَسْتبشِرون فيكون هم يستبشرون هو العاملَ في إذا، المعنى: إذا كان كذلك استبشروا. قال الشيخ: وهذا يَبْعُدُ جدًّا عن الصواب، إذا جعل إذا مضافةً إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررةٌ للتوكيد وحُذِف ما تضاف إليه إلى آخرِ كلامه فإذا كانَتْ إذا حُذِف ما تُضاف إليه، فكيف تكون مضافةً إلى الابتداء والخبرِ الذي هو هم يَسْتَبْشِرون؟ وهذا كلُّه أَوْجبه عَدَمُ الإِتقانِ لعلمِ النحوِ والتحذُّقِ فيه انتهى. وفي هذه العبارةِ تحامُلٌ على أهلِ العلمِ المرجوعِ إليهم فيه.
واختار الشيخُ أَنْ يكونَ العاملُ في إذا الشرطيةِ الفعلَ بعدها لا جوابَها، وأنها ليسَتْ مضافةً لِما بعدها، وإنْ كان قولَ الأكثرين، وجَعَل إذا الفجائيةَ معمولةً لِما بعدها سواءً كانت زمانًا أم مكانًا. أمَّا إذا قيل: إنها حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ وهي رابِطةٌ لجملةِ الجزاءِ بالشرطِ كالفاء.
والاشمِئْزازُ: النُّفورُ والتقبُّضُ. وقال أبو زيد: هو الذُّعْرُ. اشْمَأَزَّ فلانٌ: إذا ذُعِرَ، ووزن افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ. قال الشاعر:
إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ ** ووَلَّتْه عَشَوْزَنَةً زَبُوْنا

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}.
قوله: {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} يجوزُ أَنْ تكونَ ما مصدريةً أي: سَيِّئاتُ كَسْبِهم أو بمعنى الذي: سَيِّئات أعمالهم التي كَسَبوها.
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)}.
قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} يجوزُ أَنْ تكونَ ما مهيِّئةً زائدةً على إنَّ نحو: إنما قام زيد، وأَنْ تكونَ موصولةً، والضميرُ عائدٌ عليها مِنْ {أُوْتِيْتُه} أي: إنَّ الذي أُوْتِيْتُه على عِلْمٍ مني أو على عِلْمٍ من الله فيَّ، أي: أستحقُّ ذلك.
قوله: {بل هي} الضميرُ للنعمةِ. ذكَّرها أولًا في قوله: {إنما أوتيتُه} لأنها بمعنى الإِنعامِ، وأنَّث هنا اعتبارًا بلفظِها. وقيل: بل الحالةُ أو الإِتيانةُ.
{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)}.
قوله: {قَدْ قَالَهَا} أي: قال القولةَ المَذْكورةَ. وقُرِئَ {قد قاله} أي: هذا القولَ أو الكلامَ. وإنما عُطِفَتْ هذه الجملةُ، وهي قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان} بالفاء والتي في أول السورة بالواو؛ لأن هذه مُسَبَّبَةٌ عن قوله: {وإذا ذُكِر} أي: يَشْمَئِزُّون مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ويَسْتَبْشِرون بذِكْرِ آلهتِهم، فإذا مَسَّ أحدَهم بخلاف الأولى حيث لا تَسَبُّبَ فيها، فجيء بالواوِ التي لمطلقِ العطفِ، وعلى هذا فما بين السببِ والمُسَبَّبِ جملٌ اعتراضيةٌ، قال معناه الزمخشريُّ. واستبعده الشيخُ من حيث إنَّ أبا عليٍّ يمنع الاعتراضَ بجملتينِ فكيف بهذه الجملِ الكثيرةِ؟ ثم قال: والذي يَظْهر في الرَّبْطِ أنه لَمَّا قال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} [الزمر: 47] الآية كان ذلك إشعارًا بما يَنالُ الظالمين. مِنْ شِدَّةِ العذاب، وأنه يَظْهر لهم يومَ القيامة من العذاب، أَتْبع ذلك بما يَدُلُّ على ظُلمِه وبَغْيه، إذ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا اللَّهَ، فإذا أَحْسَن إليه لم يَنْسُبْ ذلك إليه.
قوله: {فما أَغْنى} يجوزُ أَنْ تكونَ ما نافيةً أو استفهاميةً مؤولةً بالنفيِ، وإذا احْتَجْنا إلى تأويلها بالنفيِ فَلْنَجْعَلْها نافيةً استراحةً من المجاز. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} في حال الضُّرِّ يتبرَّؤون من الاستحقاق والحوْلِ والقوة، فإذا كَشَفَ عنهم البلاَءَ وقعوا في مغاليطهم، وقالوا: إنما أوتينا هذا باستحقاقٍ مِنَّا، قال تعالى: {بَلْ هي قِتْنَةٌ} ولكنهم لم يعلموا، ثم اخبر أن الذين مِنْ قَبْلِهم مثلَ هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤمُ ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضًا مِثْلُ ما أصاب أولئك.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} أولم يَرَوْ كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق: فَمِنْ مُوَسَّعِ عليه رِزقُه. ومِنْ مُضَيَّقٍ عليه، وليس لواحدٍ منهم شيءٌ مِمَّا خُصَّ به من التقليل أو التكثير. اهـ.