فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ نافع وجمهور الناس: {تقَنطوا} بفتح النون. قال أبو حاتم: يلزمهم أن يقرؤوا: {من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28] بالكسر، ولم يقرأ به أحد. وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون. وقرأ أبوعمرو وابن وثاب بكسرها، وهي لغات.
وقوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} عموم بمعنى الخصوص، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعًا، وهي أيضًا في المعاصي مقيدة بالمشيئة. و{جميعًا} نصب هلى الحال. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي} وقرأ ابن مسعود: {إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء}.
{وأنيبوا} معناه: ارجعوا وميلوا بنفوسكم، والإنابة: الرجوع بالنفس إلى الشيء.
وقوله: {من قبل أن يأتيكم العذاب} توعد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: {واتبعوا أحسن} معناه: أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وحدودًا على المعاصي ووعيدًا على بعضها، فالأحسن أن يسلك أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو ذلك، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد، فهذا المعنى هو المقصود ب {أحسن} وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن، وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها. قال السدي: الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه. و: {بغتة} معناه: فجأة وعلى غير موعد. و: {تشعرون} مشتق من الشعار.
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} {أن} في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول.
وقرأ جمهور الناس: {يا حسرتى} والأصل يا حسرتي، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفًا فيقول: يا غلامًا ويا جارًا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {يا حسرتايَ} بفتح الياء، ورويت عنه بسكون الياء، قال أبو الفتح: جمع بين العوض والمعوض منه. وروى ابن جماز عن أبي جعفر: {يا حسرتي} بكسر التاء وسكون الياء. قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري. و: {فرطت} معناه: قصرت في اللازم.
وقوله تعالى: {في جنب الله} معناه: في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته، أي في تضييع شريعته والإيمان به. والجنب: يعبر به عن هذا ونحوه. ومنه قول الشاعر: الطويل:
أفي جنب بكر قطعتني ملامة ** لعمري لقد طالت ملامتها بيا

ومنه قول الآخر:
الناس جنب والأمير جنب

وقال مجاهد: {في جنب الله} أي في أمر الله. وقول الكافر: {وإن كنت لمن الساخرين} ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى. والسخر: الاستهزاء.
وقوله: {أو تقول} في الموضعين عطف على قوله: {أن تقول} الأول. و: {كرة} مصدر من كر يكر. وقوله: {فأكون} نصب بأن مضمرة مقدرة، وهو عطف على قول: {كرة} والمراد: لو أن لي كرة فكونا، فلذلك احتيج إلى: ليكون مع الفعل بتأويل المصدر، ونحوه قول الشاعر أنشده الفراء: الطويل:
فما لك منها غير ذكرى وحسبة ** وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقد قرر بعض الناس الكلام: أنه لي أن أكر فأكون، ذكره الطبري، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني.
وقوله: {بلى} جواب لنفي مقدر في قوله: هذه النفس كأنها قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا، وحق {بلى} أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقرأ جمهور الناس {جاءتكَ} بفتح الكاف، وبفتح التاء من قوله: {فكذبتَ} و{استكبرتَ وكنتَ} على مخاطبة الكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري بكسر الكاف والتاء في الثلاثة على خطاب النفس المذكورة. قال أبو حاتم: روتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: {بلى قد جاءته} بالهاء.
ثم خاطب تعالى نبيه بخبر يراه يوم القيامة من حالة الكفار، في ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه.
وقوله: {ترى} هو من رؤية العين، وكذبهم على الله: هو في أن جعلوا لله البنات والصاحبة، وشرعوا ما لم يأذن به إلى غير ذلك.
وقوله: {وجوههم مسودة} جملة في موضع الحال، وظاهر الآية: أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم. والمثوى: موضع الثواء والإقامة. والمتكبر: رافع نفسه إلى فوق حقه، وقال النبي عليه السلام: «الكبر سفه وغمط الناس أي احتقارهم». اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي. وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما عرف القرآن الكريم.
{لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} أي لا تيأسُوا من مغفرته أولًا ولا تفضُّلِه ثانيًا {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} عفوًا لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة بغيره حسبما يشاء. وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ. وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة مَّما في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم، وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقًا عن الرَّحمةِ فضلًا عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ.
والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ، والإخلاصِ في قوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} إذْا ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له {أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي كراهةَ أنْ تقولَ. والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ، وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجرِ {ياحسرتى} بالألفِ بدلًا من ياءِ الإضافةِ وقُرئ {يا حسرتَاه} بهاء السَّكتِ وقفًا. وقُرئ {يا حسرتَاي} بالجمعِ بين العوضينِ. وقُرئ {يا حسرتِي} على الأصلِ أي احضُرِي فهذا أوانُ حُضورِك.
{على مَا فَرَّطَتُ} أي على تفريطي وتقصيرِي {فِى جَنبِ الله} أي حانبِه وفي حقَّه وطاعتِه وعليه قولُ مَن قال:
أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق ** لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ

وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل: في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل: في قُربِه من قوله تعالى: {والصاحب بالجنب} وقرئ {في ذكرِ الله} {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه. ومحلُّ الجملةِ النَّصبِ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} بالإرشاد إلى الحقِّ {لَكُنتُ مِنَ المتقين} الشِّركَ والمعاصيَ {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ كَرَّةٌ} رجعةً إلى الدُّنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} في العقيدةِ والعملِ وأو للدِّلالةِ على أنَّها لا تخلُو عن هذه الأقوالِ تحسُّرًا وتحيُّرًا وتعلُّلًا بما لا طائل تحته. وقولُه تعالى: {بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} ردُّ من الله تعالى عليه لما تضمَّنه قولُه لو أنَّ الله هداني من معنى النَّفيِ وفصله عنه لما أنَّ تقديمَه يفرقُ القرائنَ وتأخيرُ المردودِ يخلُّ بالتَّرتيب الوجوديِّ لأنَّه يتحسَّرُ بالتَّفريطِ ثم يتعلَّلُ بفقدِ الهدايةِ ثم يتمنَّى الرَّجعةَ وهو لا يمنعُ تأثيرَ قُدرةِ الله تعالى في فعلِ العبدِ ولا ما فيه من إسنادِ الفعلِ إليه كما عرفتَ، وتذكيرُ الخطابِ باعتبار المَعنْى وقُرئ بالتَّأنيثِ.
{وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله} بأنْ وصفُوه بما لا يليقُ بشأنِه كاتِّخاذ الولدِ {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشِّدَّةِ أو بما يتخيَّلُ عليها من ظُلمة الجهل. والجملةُ حالٌ قد اكتفُي فيها بالضَّميرِ عن الواوِ على أنَّ الرُّؤيةَ بصريةٌ أو مفعولٌ ثانٍ لها على أنَّها عِرفانيةٌ {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى} أي مقامٌ {لّلْمُتَكَبّرِينَ} عن الإيمانِ والطَّاعةِ، وهو تقريرٌ لما قبله من رُؤيتهم كذلك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} يقال هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سَلَفَ من تقصيرهم، ويَرَوْن ما وُفِّقَ إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.
أو يقول: لو أنَّ الله هداني لكُنْتُ كذا، ويقول آخر: لو أنَّ لي كَرَّةً فأكون كذا، فيقول الحقُّ- سبحانه: {بَلىَ قَدْ جَاءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرينَ}.
فَذُقْ من العذب ما على جُرْمِك استوجَبْتَ.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} هؤلاء الذين ادَّعوا احوالًا ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحًا بذلك! وأنشدوا:
ولمَّا ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت كَذَبْتَني ** فما لي أرى الأعضاءَ منك كواسيا؟!

فما الحُبُّ حتى تنزف العين بالبكا ** وتخرس حتى لا تجيب المناديا

. اهـ.

.تفسير الآيات (61- 64):

قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر حال الذين أشقاهم، أتبعهم حال الذين أسعدهم، فقال عاطفًا لجملة على جملة لا على {ترى} المظروف ليوم القيامة، إشارة إلى أن هذا فعله معهم في الدارين وإشارة إلى كثرة التنجية لكثرة الأهوال كثرة تفوت الحصر: {وينجي} أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة يعقوب بالتخفيف، وتنجية عظمية لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد، وأظهر ولم يضمر زيادة على تعظيم حالهم وتسكين قلوبهم {الله} أي يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك {الذين اتقوا} أي بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هناك من العقوبات {بمفازتهم} أي بسبب أنهم عدوا أنفسهم في مفازة بعيدة مخوفة فوقفوا فيها عن كل عمل إلا بدليل لئلا يمشوا بغير دليل فيهلكوا، فأدتهم تقواهم إلى الفوز، وهو الظفر بالمراد وزمانه ومكانه الذي سميت المفازة به تفاؤلًا، ولذلك فسر ابن عباس- رضى الله عنهما- المفازة بالأعمال الحسنة لأنها سبب الفوز، وقرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر، وذلك كله بعناية الله بهم في الدارين، فمفازة كل أحد في الأخرى على قدر مفازته بالطاعات في الدنيا.
ولما كان كأنه قيل: ما فعل في تنجيتهم؟ قال ذاكرًا نتيجة التنجية {لا يمسهم السوء} أي هذا النوع فلا يخافون {ولا هم يحزنون} أي ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنهم لا يفوت لهم شيء أصلًا.
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا المبدع القيوم، قال مستأنفًا أو معللًا مظهرًا الاسم الأعظم تعظيمًا للمقام: {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا الذي نجاهم {خالق كل شيء} فلا يكون شيء أصلًا إلا بخلقه، وهو لا يخلق ما يتوقعون منه خوفًا، ولا يقع لهم عليه حزن.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة، كان ولابد معها من العلم الكامل قال: {وهو} وعبر بأداة الاستعلاء لأنه من أحسن مجزأتها {على كل شيء} أي مع القهر والغلبة {وكيل} أي حفيظ لجميع ما يريد منه، قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
ولما كان الخافقان خزائن الكائنات، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح، قال دالًا على وكالته: {له} أي وحده {مقاليد} واحدها مقلاد مثل مفتاح، ومقليد مثل قنديل، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية وهي استعارة لشدة التمكن من {السماوات} أي جميع أعدادها {والأرض} أي جنسها خزائنهما وأمورهما ومفاتيحهما الجامعة لكل ما فيهما، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف فيه شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بالله وتقبلوا آياته أولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله الذي اقتضاه سياق التهديد: {والذين كفروا} أي لبسوا ما اتضح لهم من الدلالات، وجحدوا أن تكون الأمور كلها بيده {بآيات الله} أي الذي لا ظاهر غيرها، فإنه ليس في الوجود إلا ذاته سبحانه وهي غيب لا يمكن المخلوق دركها، وأفعاله وهي أظهر الأشياء، وصفاته وهي غيب من جهة شهادة من جهة أخرى {أولئك} البعداء البغضاء {هم} خاصة {الخاسرون} فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجع النفع لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث إنه متعلق بأظهر الأشياء.
ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام، فانجابت دياجير الظلام، وكان الجهلة قد دعوه صلى الله عليه وسلم كما قال المفسرون في أول سورة ص- إلى أن يكف عن آلهتهم، وكان الإقرار عليها عبادة لها، تسبب عن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بما يصدعهم به بقوله: {قل} ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع أعراضه، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول- على تقدير أن- لتأمر فقال: {أفغير الله} أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلًا.
ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع، قال صارفًا الكلام إلى خطابهم، لأنه أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم {تأمروني} بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء.
ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه صلى الله عليه وسلم في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع.
ولما قرر الإنكار لإثبات إلإغيار، أتم تقرير ذكر العامل في {غير} قال حاذفًا أن المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار: {أعبد} وهو مرفوع لأن أن لما حذفت بطل عملها، ولم يراع أيضًا حكمها ليقال: إنه يمتنع نصب {غير} بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول.
ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل، وكان الجهل محط كل سفول، قال: {أيها الجاهلون} أي العريقون في الجهل، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم- قاله الحرالي في سورة البقرة. اهـ.