فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى بعده: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنه يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} وأن يكون قولك {الذين اتقوا} المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسدًا، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة، بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي بالاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء، وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم.
ثم قال تعالى: {بِمَفَازَتِهِمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {بمفازاتهم} على الجمع، والباقون {بمفازتهم} على التوحيد، وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال: كلاهما صواب، إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم وأمور القوم، قال أبو علي الفارسي: الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] ولا شك أن لكل متق نوعًا آخر عن المفازة.
المسألة الثانية:
المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، فكأن المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها.
ثم قال: {لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة، كأنه قيل كيف ينجيهم؟ فقيل: {لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه كلمة جامعة لأنه إذا علم أنه لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه.
المسألة الثالثة:
دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة، وتأكد هذا بقوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103].
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى: {خالق كُلّ شَىْء} [الأنعام: 102] على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة، فلا فائدة هاهنا في الإعادة، إلا أن الكعبي ذكر هاهنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها، فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله: {الله خالق كُلّ شَىْء} وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به، وأيضًا فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد، بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام، فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه، وأيضًا لفظة {كُلٌّ} قد لا توجب العموم لقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} [النمل: 23] {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء} [الأحقاف: 25] وأيضًا لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله: {كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] ولما صح قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78] ولما صح قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} [ص: 27] فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره، وقال الجبائي: {الله خالق كُلّ شَىْء} سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب، ولو كانت أفعالهم خلقًا لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم، وقال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد، فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل، فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجدًّا له.
واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَهُوَ على كُلّ شيء وَكِيلٌ} فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، وهذا أيضًا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلًا عليه، وذلك ينافي عموم الآية.
ثم قال تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح، قال صاحب الكشاف: ولا واحد لها من لفظها، وقيل مقليد ومقاليد، وقيل مقلاد ومقاليد مثل مفتاح ومفاتيح، وقيل إقليد وأقاليد، قال صاحب الكشاف: والكلمة أصلها فارسية، إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية.
واعلم أن الكلام في تفسير قوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} قريب من الكلام في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] وقد سبق الاستقصاء هناك، قيل سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر، سبحان الله وبحمده، أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير، يحيي ويميت هو على كل شيء قدير» هكذا نقله صاحب الكشاف.
ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر، وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافرًا فإنه لابد وأن يحصل له حظ من رحمة الله.
المسألة الثانية:
أورد صاحب الكشاف سؤالًا، وهو أنه بم اتصل قوله: {والذين كَفَرُواْ}؟ وأجاب عنه بأنه اتصل بقوله تعالى: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا} [الزمر: 61] أي ينجي الله المتقين بمفازتهم {والذين كَفَرُواْ بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} واعترض ما بينهما أنه خالق للأشياء كلها، وأن له مقاليد السموات والأرض.
وأقول هذا عندي ضعيف من وجهين الأول: أن وقوع الفاصل الكبير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد الثاني: أن قوله: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} جملة فعلية، وقوله: {والذين كَفَرُواْ بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} جملة اسمية، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية، وهو كونه خالقًا للأشياء كلها، وكونه مالكًا لمقاليد السموات والأرض بأسرها، قال بعده: والذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة أولئك هم الخاسرون.
ثم قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن عامر {تأمرونني} بنونين ساكنة الياء وكذلك هي في مصاحف الشام، قال الواحدي وهو الأصل، وقرأ ابن كثير {تأمروني} بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية، وقرأ نافع {تأمروني} بنون واحدة خفيفة، على حذف إحدى النونين والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة.
المسألة الثانية:
{أَفَغَيْرَ الله} منصوب بأعبد وتأمروني اعتراض، ومعناه: أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وأقول نظير هذه الآية، قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السموات والأرض} [الأنعام: 14] وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل.
المسألة الثالثة:
إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقًا للأشياء وبكونه مالكًا لمقاليد السموات والأرض، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع، ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة، فقد بلغ في الجهل مبلغًا لا مزيد عليه، فلهذا السبب قال: {أَيُّهَا الجاهلون} ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} وقرئ: {ويُنْجي} أي من الشرك والمعاصي.
{بِمَفَازَتِهِمْ} على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر.
وقرأ الكوفيون: {بمَفَازَاتهِمْ} وهو جائز كما تقول بسعاداتهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة، قال: «يحشر الله مع كل امرىء عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رُعْب أو خَوْف قال له لا تُرَع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعنيّ به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك فهي التي قال الله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}» {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حافظ وقائم به.
وقد تقدّم.
قوله تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} واحدها مِقليد.
وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد.
والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره.
وقال السدي: خزائن السموات والأرض.
وقال غيره: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات.
وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد.
قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمِقلد مفتاح كالمِنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القَتُّ إذا جعل حِبالًا؛ أي يفتل والجمع المقاليد.
وأقلد البحرُ على خلقٍ كثير أي غرّقهم كأنه أغلق عليهم.
وخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما سألني عنها أحد، لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارًا من الأجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين، والسادسة يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله أيضًا من الأجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدًا.
وروى الحارث عن عليّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: «يا عليّ لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرًا إذا أصبحت وعشرًا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله وأستغفر الله ولا قوّة إلا بالله الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير من قالها عشرًا إذا أصبح، وعشرًا إذا أمسى أعطاه الله خصالًا ستًا: أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارًا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف مَلَك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة يكون له من الأجر كأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء».
وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلي فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره؛ فمعنى الآية له طاعة من في السموات والأرض.
قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} أي بالقرآن والحجج والدلالات.
{أولئك هُمُ الخاسرون} تقدم.
قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} وذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك.
و{غير} نصب ب {أَعْبُدُ} على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني.
ويجوز أن ينتصب ب {تَأْمُرُونِّي} على حذف حرف الجرّ؛ التقدير: أتأمرونّي بغير الله أن أعبده، لأنّ أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمرونّي بعبادة غير الله.
وقرأ نافع: {تَأْمُرُونِي} بنون واحدة مخففة وفتح الياء.
وقرأ ابن عامر: {تَأْمُرُونَنِي} بنونين مخففتين على الأصل.
الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة.
وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضًا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع.
وقد مضى في الأنعام بيانه عند قوله تعالى: {أتحاجوني} [الأنعام: 80].
{أَعْبُدُ} أي أن أعبد فلما حذف أن رفع؛ قاله الكسائي.
ومنه قول الشاعر:
أَلاَ أَيُّهَذَا الزاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ {أَعْبُدَ} بالنصب. اهـ.