فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السؤال الرابع: ما معنى قوله: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}؟ والجواب كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم، فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى: {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 75] فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه، وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم.
واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال: {بَلِ الله فاعبد وَكُن مّنَ الشاكرين} والمقصود منه ما أمروه به من الإسلام ببعض آلهتهم، كأنه قال إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله لأن قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ} يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله، فقال الله إنهم بئسما قالوا ولكن أنت على الضد مما قالوا، فلا تعبد إلا الله، وذلك لأن قوله: {بَلِ الله فاعبد} يفيد الحصر.
ثم قال: {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر عن الإطلاق العليم الحكيم، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئًا آخر سواه، بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية، فقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
احتج بعض الناس بهذه الآية على أن الخلق لا يعرفون حقيقة الله، قالوا لأن قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدره وصف المؤمنين بذلك، فسقط هذا الكلام.
المسألة الثانية:
قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه، وهذه الآية مذكورة في سور ثلاث، في سورة الأنعام، وفي سورة الحج، وفي هذه السورة.
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيمًا لائقًا به أردفه بما يدل على كمال عظمته ونهاية جلالته، فقال: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} قال القفال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي، ونظيره قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا، والمعنى {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته، قال صاحب الكشاف الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك ما روي أن يهوديًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، قال صاحب الكشاف وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة، التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه، قال ولا نرى بابًا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع، فحينئذ يجب حمله على المجاز، فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة، فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود، ولا ألتفت إلى الظواهر، مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين، وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية، ومن تمسك بالآيات الواردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله، فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة، وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية، وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية، وذلك باطل قطعًا، وأما إن سلم أن الأصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته، فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه، فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين، فنقول هاهنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة، ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات، ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازًا عن تلك الحقيقة، ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره، وإذا ثبتت هذه المقدمات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب، بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق، فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد، دال على قلة وقوفه على المعاني، ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره.
قال تعالى: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المعارج: 30] والمراد منه كونه مملوكًا له، ويقال هذه الدار في يد فلان، وفلان صاحب اليد، والمراد من الكل القدرة، والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته، ولا يريدون إلا خلوص ملكه، وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صونًا لهذه النصوص عن التعطيل، فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب، ولنا كتاب مفرد في إثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان، سميناه بتأسيس التقديس، من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه.
المسألة الثالثة:
في تفسير ألفاظ الآية قوله: {والأرض} المراد منه الأرضون السبع، ويدل عليه وجوه الأول: قوله: {جَمِيعًا} فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله: {كُلُّ الطعام} [آل عمران: 93] وقوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} [النور: 31] وقوله تعالى: {والنخل باسقات} [ق: 10] وقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع فكذا هاهنا والثاني: أنه قال بعده {والسماوات مطويات} فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون الثالث: أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهذا مقتضى المبالغة، وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض، قال تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضًا أعطني قبضة من كذا، يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، والمعنى والأرضون جميعًا قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته، يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، أما إذا أُريد معنى القبضة، فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة فإن قيل ما وجه قراءة من قرأ {قبضته} بالنصب، قلنا جعل القبضة ظرفًا وقوله: {مطويات} من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل} [الأنبياء: 104] وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه، ثم قال صاحب الكشاف: وقيل قبضته ملكه ويمينه قدرته، وقيل مطويات بيمينه أي مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يقبضها، ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجوه ركيكة، وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى، وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب، وأقول إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته، وتقبيح طريقة القدماء عجيب جدًّا، فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك الظاهر اللفظ، والمصير إلى المجاز من غير دليل فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء، وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة، وأنه لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفل، فهذا هو الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين، فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه؟ وأين العلم الذي لم يعرفه غيره؟ مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة، فإن قالوا المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء، وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد، بل نفوض علمه إلى الله تعالى، فنقول هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء، فأما تعيين المراد، فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف المعرضين عن التأويلات، فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلًا، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته تنزّه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية، فإن قيل السؤال على هذا الكلام من وجوه الأول: أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع، ثم إنه قال في صفة العرش {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم، فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملًا للسموات والأرض؟
السؤال الثاني: أن قوله: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة، والقوم ما شاهدوا ذلك، فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى، فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوّة وهم ينكرون قوله: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟
السؤال الثالث: حاصل القول في القبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة، وكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرة الله فكذلك الآن، فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟
الجواب عن الأول: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادرًا على حفظ هذه الأجسام العظيمة، ثم بعد تقرير عظمته بكونه قادرًا على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
الجواب عن الثاني: أن المقصود أن الحق سبحانه هو المتولي لإبقاء السموات والأرضين على وجوه العمارة في هذا الوقت، وهو المتولي بتخريبها وإفنائها في يوم القيامة فذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام، وتنبيه أيضًا على كونه غنيًا على الإطلاق، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
الجواب عن الثالث: أنه إنما خصص تلك بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا، فكذلك ظهر كمال قدرته عند خراب الدنيا، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ حَالِ الْإِحْبَاطِ بِالرِّدَّةِ، وَسَنَزِيدُهُ هَاهُنَا بَيَانًا، فَنَقُولُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ، وَكَيْفَمَا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ كَيْفَ كَانَ، وَلَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ يُحْبَطُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ؛ إذْ لَا عَمَلَ إلَّا بَعْدَ أَصْلِ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ مَعْنًى يَكُونُ بِهِ الْمَحَلُّ أَصْلًا لِلْعَمَلِ لَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ، كَمَا تَخَيَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْفَرْعِ؛ إذْ الشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ فَلَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً؛ إذْ فِيهِ قَلْبُ الْحَالِ وَعَكْسُ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَاسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ إذَا أَسْلَمَ، وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَكْفُرْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَالْإِسْلَامُ وَالْهِجْرَةُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا بِاعْتِقَادٍ عَامٍّ عَلَى الْأَزْمَانِ، مُتَّصِلٍ بِتَأْبِيدِ الْأَبَدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَإِنْ أُفْسِدَ فَسَدَ جَمِيعُهُ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ} قيل: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك.
وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف.
ثم قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} يا محمد {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك.
والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] فالمطلق هاهنا محمول على المقيد؛ ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.
قلت: هذا مذهب الشافعي.
وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في البقرة بيان هذا مستوفى.
قوله تعالى: {بَلِ الله فاعبد} النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب ب {اعْبُدْ} قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين.
قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبًا بإضمار فعل.
وحكاه المهدوي عن الكسائي.
فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة.
وقال الأخفش: هي زائدة.
وقال ابن عباس؛ {فاعْبُدْ} أي فوحِّد.