فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} بين ما يكون بعد قبض الأرض وطيّ السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في النمل والأنعام أيضًا.
والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام.
وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبي الصور بأيديهما أو في أيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران» خرجه ابن ماجه في السنن.
وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصُّور، وقال: «عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل» واختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: «هم الشهداء متقلّدين أسيافهم حول العرش» روي مرفوعًا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبد الله بن عمر فيما ذكر الثعلبي.
وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام.
وروي من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} فقالوا: يا نبيّ الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: «هم جبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَك الموت فيقول الله تعالى لمَلَك الموت يا مَلَك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف مَلَك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرافيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول متّ يا مَلَك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإِكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لابد من موتك فيقع ساجدًّا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطَّود العظيم على الظَّرِب من الظِّراب» ذكره الثعلبي.
وذكره النحاس أيضًا من حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} قال: «جبريل وميكائيل وحملة العرش ومَلَك الموت وإسرافيل».
وفي هذا الحديث: «إن آخرهم موتًا جبريل عليه وعليهم السلام» وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدّم في النمل.
وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزَّبانية.
وقيل: عقارب أهل النار وحياتها.
وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحدًا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت.
وقال قتادة: الله أعلم بثنياه.
وقيل: الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَن شَاءَ الله} يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى؛ أي فيموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته؛ لأنهم كانوا قد ماتوا.
وفي الصحيحين وابن ماجه واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر؛ فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه؛ قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} فأكون أوّل من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمةٍ من قوائم العرش فلا أدري أرَفَع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وخرجه الترمذي أيضًا وقال فيه: حديث حسن صحيح.
قال القشيري: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاءِ قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله.
فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوّزه العقل، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق.
قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أوّل من يفِيق فإذا موسى باطِشٌ بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعِق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله» خرجه مسلم.
ونحوه عن أبي سعيد الخدري؛ والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت بردّ الحياة.
والله أعلم.
قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون.
وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعِدوا به.
وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم.
وأجاز الكسائي قيامًا بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسًا.
قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} إشراقها إضاءتها؛ يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشَرَقت إذا طلعت.
ومعنى: {بِنُورِ رَبِّهَا} بعدل ربها؛ قاله الحسن وغيره.
وقال الضحاك: بحكم ربها؛ والمعنى واحد؛ أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده.
والظلم ظلمات والعدل نور.
وقيل: إن الله يخلق نورًا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به.
وقال ابن عباس: النور المذكور هاهنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض.
وروي أن الأرض يومئذٍ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء.
والمعنى أنها أشرقت بنورٍ خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حدّ إضافة الملك إلى المالك.
وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه.
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: {وأُشْرِقَتِ الأَرْضُ} على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير.
وقد ضل قوم هاهنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منوّر السموات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء.
وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح: «تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامّون في رؤيته» وهو يروى على أربعة أوجه: لا تُضامُون ولا تضارُون ولا تضامُّون ولا تضارُّون؛ فمعنى «لا تضامُون» لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك.
و«لا تضارُون» لا يلحقكم ضير.
و«لا تضامُّون» لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه.
و«لا تضارُّون» لا يخالف بعضكم بعضًا؛ يقال: ضارّه مُضارّة وضِرارًا أي خالفه.
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ.
وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله.
{وَجِيءَ بالنبيين} أي جيء بهم فيسألهم عما أجابتهم به أممهم.
{والشهداء} الذين شهدوا على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143].
وقيل: المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذبّ عن دين الله؛ قاله السدي.
قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم.
قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] فالسائق يسوقها إلى الحساب والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في قاف.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} أي بالصدق والعدل.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} قال سعيد بن جبير: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} من خير أو شر.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب والشهود إلزامًا للحجة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَنُفِخَ في الصور} المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه.
وفي حديث أخرجه ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا أن النافخ اثنان، ويدل عليه أيضًا أخبار أخر، منها ما أخرجه أحمد والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا» وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره إلى إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور.
والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه.
وأنكر بعضهم ذلك وقال: هو جمع صورة كما في قراءة قتادة وزيد بن علي {فِى الصور} بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل.
ووقع النفخ في الصور {فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض} أي ماتوا بسبب ذلك، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولًا ثم يموتون، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات.
وفي صحيح مسلم من حديث طويل فيه ذكر الدجال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أُصغي ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» وقرئ {فَصَعِقَ} بضم الصاد {إِلاَّ مَن شَاء الله} قال السدي: جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، وقيل: هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور، وقيل: رضوان والحور ومالك والزبانية وروى ذلك عن الضحاك، وقيل: من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا؛ قال في البحر: وهذا نظير {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56] ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز وجل، ولا يخفى عليك حاله متصلًا كان الاستثناء أم منقطعًا، وقيل: هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك، وقيل غير ذلك.
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلًا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف، وقيل: إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها {أخرى} أي نفخة أخرى، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها هاهنا وجه، و{أخرى} تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف.
وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعًا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون.
وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عامًا، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص قال: ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} قائمون من قبورهم {يُنظَرُونَ} أي نتظرون ما يؤمرون أو ينتظروم ماذا يفعل بهم، وقيل: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم.