فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم: وَصِيَّةٌ بالرفع والباقون: بالنصب. وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع وَصِيَّةً، وثلاثةٌ على قراءة من نصب وصيةٌ؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، ووَصِيَّةٌ مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديرًا؛ إذ التقدير: {وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ} أو مِنْهُمْ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و{لأَزْوَاجِهِمْ} خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ تقديره: مَنَوَانِ مِنْهُ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: كما حَسُنَ أَنْ يرتفع: سَلاَمٌ عَلَيْكَ وخَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ لأنها موضع دعاءٍ قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ.
الثاني: أن تكون {وَصِيَّةٌ} مبتدأ، و{لأَزْوَاجِهِمْ} صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل.
الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ و{لأَزْوَاجِهِمْ} صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضًا؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبدالله: {كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ} وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.
الرابع: أن {الَّذِينَ} مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين.
الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ} ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك.
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع {وَصِيَّةٌ}. وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في {وَصِيَّةٌ} فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب وَصِيَّةٌ على المصدر.
الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره: وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ويكون نصب وَصِيَّةً على أنها مفعولٌ ثانٍ لأُلْزِمَ، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.
الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية: لِيُوصُوا ووَصِيَّةً منصوبةٌ على المصدر أيضًا، وفي حرف عبدالله: {الوَصِيَّةُ} رفعًا بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {متاعا} ففيه وجوه:
الأول: أن يكون على معنى: متعوهن متاعًا، فيكون التقدير: فليوصوا لهن وصية، وليمتعوهن متاعًا.
الثاني: أن يكون التقدير: جعل الله لهن ذلك متاعًا لأن ما قبل الكلام يدل على هذا.
الثالث: أنه نصب على الحال.
أما قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ففيه قولان الأول: أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال: متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني: انتصب بنزع الخافض، أراد من غير إخراج. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] والمتاع هنا هو السكنى، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعًا، وانتصب متاعًا على نزع الخافض، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع.
و{إلى} مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول، وتقديره متاعًا بسكنى إلى الحول، كما دل عليه قوله: {غير إخراج}.
والتعريف في الحول تعريف العهد، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها، فهو كتعريفه في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يَبْككِ حولًا كاملًا فقد اعتذر

وقوله: {غير إخراج} حال من {متاعًا} مؤكدة، أو بدل من {متاعًا} بدلًا مطابقًا، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية:
خباءٌ على المنابر فُرسانٌ ** عليها وقالَةٌ غيرُ خُرْس

اهـ.

.قال الفخر:

في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين، أنها منسوخة، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج، ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج، وإن شاءت خرجت قبل الحول، لكنها متى خرجت سقطت نفقتها، هذا جملة ما في هذه الآية، لأنا إن قرأنا {وَصِيَّة} بالرفع، كان المعنى: فعليهم وصية، وإن قرأناها بالنصب، كان المعنى: فليوصوا وصية، وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة، ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما: المتاع والنفقة إلى الحول والثاني: السكنى إلى الحول، ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما: وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني: وجوب الاعتداد سنة، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخًا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين.
القول الثاني: وهو قول مجاهد: أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما: ما تقدم وهو قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} والأخرى: هذه الآية، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين.
فنقول: إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها، كانت عدتها أربعة أشهر وعشرًا على ما في تلك الآية المتقدمة، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله وتركته، فعدتها هي الحول، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى، حتى يكون كل واحد منهما معمولًا به.
القول الثالث: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: أن معنى الآية: من يتوفى منكم ويذرون أزواجًا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولًا كاملًا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل، واحتج على قوله بوجوه أحدها: أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني: أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ في النزول، وإذا كان متأخرًا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرًا عنه في التلاوة أيضًا، لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة، فهو وإن كان جائزًا في الجملة، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
الوجه الثالث: وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وهاهنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر، لأنكم تقولون تقدير الآية: فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: فليوصوا وصية، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لابد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح.
وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فهذا تقرير قول أبي مسلم، وهو في غاية الصحة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أنّ المتوفّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفَّى عنها حولًا، ويُنفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نُسخ الحولُ بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسخت النفقةُ بالرُّبُع والثُّمن في سورة النساء قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في البقرة: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأُخرى فلم تكتبها أو تَدَعُها؟ قال: يابن أخي لا أُغير شيئًا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرًا، ثم جعل الله لهن وصِيَّةً منه سُكْنَى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتّفق عليه إلا ما قوّله الطبري مجاهدًا رحمهما الله تعالى، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عِياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عِدّتها أربعةُ أشهر وعشرٌ. قال غيره: معنى قوله: {وَصِيَّةً} أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنَةً ثم نُسخ.
قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرّج البخاريّ قال: حدّثنا إسحاق قال حدّثنا روح قال حدّثنا شِبْل عن ابن أبي نجِيح عن مجاهد {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال: كانت هذه العدّة تعتدّ عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا إلى قوله مِن مَّعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها تمام السَّنَة سبعةَ أشهر وعشرين ليلةً وصِيَّةً، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إلا أن القول الأوّل أظهر لقوله عليه السلام: «إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول» الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفَّى عنهنّ أزواجهنّ قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهنّ الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا مع وضوحه في السُّنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد إجماعٌ من علماء المسلمين لا خلاف فيه؛ قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية.
فقوله عز وجل: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعًا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخٌ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذّة مهجورة جاءت عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد لم يُتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحدٌ من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم فيما علمتُ. وقد رَوى ابن جُرَيْج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق. اهـ.