فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} لما ذكر فيما تقدّم حال الذين كفروا، وسوقهم إلى جهنم، ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة، فقال: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَرًا} أي: ساقتهم الملائكة سوق إعزاز، وتشريف، وتكريم.
وقد سبق بيان معنى الزمر {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} جواب إذا محذوف.
قال المبرد تقديره: سعدوا، وفتحت، وأنشد قول الشاعر:
فلو أنها نفس تموت جميعة ** ولكنها نفس تساقط أنفسا

فحذف جواب لو، والتقدير: لكان أروح.
وقال الزجاج: القول عندي: أن الجواب محذوف على تقدير: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها، فالجواب دخولها، وحذف؛ لأن في الكلام دليلًا عليه.
وقال الأخفش، والكوفيون: الجواب، والواو زائدة، وهو خطأ عند البصريين، لأن الواو من حروف المعاني، فلا تزاد.
قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله، والتقدير: حتى إذا جاءوها، وأبوابها مفتحة بدليل قوله: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} [ص: 50]، وحذفت الواو في قصة أهل النار، لأنهم وقفوا على النار، وفتحت بعد وقوفهم إذلالًا، وترويعًا.
ذكر معناه النحاس منسوبًا إلى بعض أهل العلم، قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد.
وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد، أي: جاءوها، وقد فتحت لهم الأبواب.
وقيل: إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد: خمسة ستة سبعة، وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى، وفي سورة الكهف أيضًا.
ثم أخبر سبحانه: أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين، فقال: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ} أي: سلامة لكم من كلّ آفة {طِبْتُمْ} في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك، والمعاصي.
قال مجاهد: طبتم بطاعة الله، وقيل: بالعمل الصالح، والمعنى واحد.
قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة، والنار، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا، وطيبوا قال لهم رضوان، وأصحابه: {سلام عَلَيْكُمُ} الآية {فادخلوها} أي: ادخلوا الجنة {خالدين} أي: مقدّرين الخلود، فعند ذلك قال أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث، والثواب بالجنة {وَأَوْرَثَنَا الأرض} أي: أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها، وتصرفوا فيها.
وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين.
قاله أكثر المفسرين.
وقيل: إنها أرض الدنيا، وفي الكلام تقديم، وتأخير {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} أي: نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، أي: فنعم أجر العاملين الجنة، وهذا من تمام قول أهل الجنة.
وقيل: هو من قول الله سبحانه: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أي: محيطين محدقين به، يقال: حفّ القوم بفلان إذا أطافوا به، ومن مزيدة.
قاله الأخفش، أو للابتداء، والمعنى: أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم، وجملة: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} في محل نصب على الحال، أي: حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده.
وقيل: معنى يسبحون: يصلون حول العرش شكرًا لربهم، والحافين جمع حافّ، قاله الأخفش.
وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي: بين العباد بإدخال بعضهم الجنة، وبعضهم النار، وقيل: بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء، وبين أممهم بالحق.
وقيل: بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم، والأوّل أولى.
{وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين} القائلون هم: المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم، وبين أهل النار بالحق.
وقيل: القائلون هم: الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم، وقضائه بين عباده بالحقّ.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة» وأخرجا، وغيرهما عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب: الريان لا يدخله إلا الصائمون» وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين، وغيرهما.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض} قال: أرض الجنة.
وأخرج هناد عن أبي العالية مثله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} أطلق على تَقْدِمَة المتقين إلى الجنة فعلُ السَّوق على طريقة المشاكلة ل {سيقَ} [الزمر: 71] الأوللِ، والمشاكلةُ من المحسنات، وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلاّ المشابهة الجُملية التي تحمل عليها مجانسة اللفظ.
وجَعلهم زُمرًا بحسب مراتب التقوى.
والواو في جملة {وفتحت أبوابها} واو الحال، أي حين جاءوها وقد فتحت أبوابها فوجدوا الأبواب مفتوحة على ما هو الشأن في اقتبال أهل الكرامة.
وقد وهِم في هذه الواو بعض النحاة مثل ابن خالويه والحريري وتبعهما الثعلبي في تفسيره فزعموا أنها واو تدخل على ما هو ثامن إمّا لأن فيه مادة ثمانية كقوله: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، فقالوا في {وفُتحَت أبوابها} جيء بالواو لأن أبْواب الجنة ثمانية، وإما لأنه ثامن في التعداد نحو قوله تعالى: {التائبون العابدون} إلى قوله: {والناهون عن المنكر} [التوبة: 112] فإنه الوصف الثامن في التعداد ووقوع هذه الواوات مُصادفة غريبة، وتنبُّه أولئك إلى تلك المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في معاني القرآن بَلْهَ بلاغتِه، وقد زينه ابن هشام في مغني اللبيب، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {التائبون العابدون} في سورة [التوبة: 112] وعند قوله: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} في سورة [الكهف: 22].
و{إذا} هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط، فالتقدير: حتّى زمننِ مجيئهم إلى أبواب الجنة، أي خلَّتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة، كحالة من يُهدي العروس إلى بيتها فإذا أَبلغها بابه خَلَّى بينها وبين بيتها، كأنهم يقولون: هذا منزلكم فدونكموه، فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام.
و{طبتم} دعاء بالطيب لهم، أي التزكية وطيب الحالة، والجملة إنشاء تكريم ودعاء.
والخلاف بين القراء في هنا كالخلاف في نظيره المذكور آنفًا.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} عطف هذا الكلام يؤذن بأن قولهم ذلك غيرُ جواب لقول الملائكة بل حَمدوا الله على ما منحهم من النعيم الذي وعَدهم به، وإنما وعدهم به بعنوان الأعمال الصالحة فلما كانوا أصحاب الأعمال الصالحة جعَلوا وعد العاملين للصالحات وعدًا لهم لتحقق المعلق عليه الوعدُ فيهم.
ومعنى {صدقنا} حقق لنا وعده.
وقوله: {أورثنا الأرض} كلام جرى مجرى المثل لمن ورث الملك قال تعالى: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] فعبر القرآن عن مراد أهل الجنة المختلفي اللغات بهذا التركيب العربي الدال على معاني ما نطقوا به من لغاتهم المختلفة.
ويجوز أن يكون أهل الجنة نطقوا بكلام عربي ألهمهم الله إياه فقد جاء في الآثار أن كلام أهل الجنة بالعربية الفصحى.
ولفظ {الأرض} جار على مراعاة التركيب التمثيلي لأن الأرض قد اضمحلت أو بدلت.
ويجوز أن يكون لفظ {الأرض} مستعارًا للجنّة لأنها قرارهم كما أن الأرض قرار الناس في الحياة الأولى.
وإطلاق الإِيراث استعارة تشبيهًا للإِعطاء بالتوريث في سلامته من تعب الاكتساب.
والتبؤ: السكني والحلول، والمعنى: أنهم يتنقلون في الغرف والبساتين تفننًا في النعيم.
وأرادوا ب {العاملين} أنفسَهم، أي عاملي الخير، وهذا من التصريح بالحقائق فليس فيه عيب تزكية النفس، لأن ذلك العالم عالم الحقائق الكاملة المجردة عن شوب النقائص.
واعلم أن الآيات وَصفت مصير أهل الكفر ومصير المتقين يوم الحشر، وسكتت عن مصير أهل المعاصي الذين لم يلتحقوا بالمتقين بالتوبة من الكبائر وغفراننِ الصغائر باجتناب الكبائر، وهذه عادة القرآن في الإِعراض عن وصف رجال من الأمة الإِسلامية بمعصية ربهم إلا عند الاقتضاء لبيان الأحكام، فإن الكبائر من أمر الجاهلية فما كان لأهل الإِسلام أن يقعوا فيها فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة، فإذا ماتوا غير تائبين فإن الله تعالى يحصي لهم حسنات أعمالهم وطيبات نواياهم فيُقاصُّهم بها إن شاء، ثم هم فيما دون ذلك يقتربون من العقاب بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر في وفرة المعاصي فيؤمر بهم إلى النار، أو إلى الجنة، ومنهم أهل الأعراف.
وقد تقدمت نبذة من هذا الشأن في سورة الأعراف.
{وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.
عطف على ما قبله من ذكر أحوال يوم القيامة التي عطف بعضها على بعض ابتداء من قوله تعالى: {ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعق مَن في السموات ومَن في الأرض} [الزمر: 68] إن من جملة تلك الأحوال حَفّ الملائكة حول العرش.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون إيذانًا بأنها رؤية دنو من العرش وملائكته، وذلك تكريم له بأن يكون قد حواه موكب الملائكة الذين حول العرش.
والحَفُّ: الإِحداق بالشيء والكون بجوانبه.
وجملة {يُسَبحون بحمد ربهم} حال، أي يقولون أقوالًا تدل على تنزيه الله تعالى وتعظيمه مُلابِسَةً لحمدهم إياه.
فالباء في {بحمد ربهم} للملابسة تتعلق ب {يسبحون}.
وفي استحضار الله تعالى بوصف ربهم إيماء إلى أن قربهم من العرش ترفيع في مقام العبودية الملازمة للخلائق.
{رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ}.
تأكيد لجملة {وقُضِي بينهم بالحقِّ وهُم لا يُظلمون} [الزمر: 69] المتقدمةِ.
{بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ}.
يجوز أن يكون توكيدًا لجملة {وقالوا الحَمْدُ لله الَّذي صَدَقنا وَعْده} [الزمر: 74].
ويجوز أن يكون حكاية قول آخر لقائلين من الملائكة والرسل وأهل الجنة، فهو أعم من القول المتقدم الذي هو قول المسُوقين إلى الجنة من المتقين، فهذا قولهم يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله. اهـ.
فائدة:
قال التسترى:
قوله: {الحمد لِلَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (74) قال: إن الحمد منهم في الجنة ليس على جهة التعبد، إذ التعبد قد رفع عنهم، كما رفع خوف الكسب والقطع، وبقي خوف الإجلال والتعظيم لله عزَّ وجلَّ، وإنما الحمد منهم لذة لنفس الطبع ونفس الروح والعقل، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.