فصل: (سورة الزمر: الآيات 54- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الزمر: الآيات 54- 59]:

{وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)}.
{وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ} وتوبوا إليه {وَأَسْلِمُوا لَهُ} وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} مثل قوله {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} كراهة أن تقوّل. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكسير، كما قال الأعشى:
وربّ بقيع لو هتفت بحوه ** أتانى كريم ينفض الرّأس مغضبا

وهو يريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: {يا حسرتى} على الأصل.
و{يا حسرتاى} على الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري:
أما تتّقين الله في جنب وامق ** له كبد حرّى عليك تقطّع

وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه.
ألا ترى إلى قوله:
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ** في قبّة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفىّ أن يصلى الرجل لمكان الرجل» وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} على معنى: فرطت في ذات اللّه. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في اللّه. فما معنى فرّطت في اللّه؟ قلت: لابد من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة اللّه وعبادة اللّه، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد اللّه وحفصة: في ذكر اللّه. وما في ما فرّطت مصدرية مثلها في {بِما رَحُبَتْ} {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة اللّه حتى سخر من أهلها، ومحل {وَإِنْ كُنْتُ} النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أى: فرّطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب اللّه} ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل اللّه خبره في القرآن {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} لا يخلو: إما أن يريد الهداية بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه {لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} وقوله {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي} ردّ من اللّه عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.
وقرئ بكسر التاء على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} فيه معنى: ما هديت.

.[سورة الزمر: آية 60]:

{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}.
{كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه فاعتقدوا أنهم نزهوا، وإنما أشركوا.
وأما تعريضه لهم في أنهم يجوزون أن يخلق خلقا لا لغرض، فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل، لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة، فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنها فيجب عليه أن لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما للّه تعالى، فاعتقاد باطل، لأن ذلك إنما ثبت لازما لاعتقادهم أن اللّه تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بها تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق، ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك اللّه تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض، فيقال له: ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال، ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية إذ يقولون: لابد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية اللّه تعالى يستلزم اعتقاد الجسمية، فإنه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك، مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية قول نبى الهدى عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فهذا النص الذي ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شيء من التهويل. وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة، فيعنى به قولهم بلا كيف أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء، ولا تبعد عن الهدى عين الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون للّه أندادا باثباتهم معه قدماء، فنفى لاثباتهم صفات الكمال، كلا واللّه، إنما جعل للّه أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم. حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء اللّه لا يكون.
وأما أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن للّه تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة، حسبما دل عليه العقل وورد به الشرع وأى مخلص للقدرى إذا سمع قوله تعالى {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} إلا اعتقاد أن للّه تعالى علما أو جحد آيات اللّه وإطفاء نوره، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما قوله: إنهم يثبتون للّه تعالى يدا وقدما ووجها، فذلك فرية ما فيها مرية، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة. وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية وردت في القرآن: اليدان والعينان والوجه، ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب اللّه العزيز، على أن غيره من أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة، والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه، وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ مخاطبته الغضب للّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم وأهل سنته، فإنه قد أساء عليهم الأدب، ونسبهم بكذبه إلى الكذب، واللّه الموفق.
الولد والشريك، وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا} {وقالوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} وقالوا {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها} ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق خلقا لا لغرض، ويؤلم لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا معاينا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدماء {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} جملة في موضع الحال إن كان ترى من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.

.[سورة الزمر: آية 61]:

{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}.
قرئ: {يُنْجِى} {ويُنَجِّى بِمَفازَتِهِمْ} بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة قوله {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} أي بمنجاة منه، لأنّ النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضى اللّه عنهما المفازة بالأعمال الحسنة، ويجوز: بسبب فلاحهم، لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة، لأنه سببها. وقرئ: {بمفازاتهم} على أن لكل متق مفازة. فإن قلت: {لا يَمَسُّهُمُ} ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأوّل فلا محل له، لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني فمحله النصب على الحال.

.[سورة الزمر: الآيات 62- 63]:

{اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)}.
{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية، لأنّ حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح، ولا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد. ويقال: إقليد، وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت. ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا. فإن قلت: بما اتصل قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} قلت: بقوله {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي ينجى اللّه المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون.
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، فلا بخفي عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فاللّه خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل: سأل عثمان رضى اللّه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فقال: «يا عثمان ما سألنى عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر، وسبحان اللّه وبحمده، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوّة إلا باللّه، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير» وتأويله على هذا، أن للّه هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض: من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات اللّه وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون.

.[سورة الزمر: آية 64]:

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)}.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ} منصوب ب {أعبد} و{تَأْمُرُونِّي} اعتراض. ومعناه، أفغير اللّه أعبد بأمركم، وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله {تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} لأنه في معنى تعبدوننى وتقولون لي: اعبد، والأصل: تأمروننى أن أعبد، فحذف أن ورفع الفعل، كما في قوله:
ألا أيهذا الزّاجرى أحضر الوغى

ألا تراك تقول: أفغير اللّه تقولون لي اعبده، وأفغير اللّه تقولون لي أعبد، فكذلك أفغير اللّه تأمروننى أن أعبده. وأ فغير اللّه تأمروننى أن أعبد، والدليل على صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ {أَعْبُدُ} بالنصب. وقرئ: {تأمروننى} على الأصل. و{تأمرونى} على إدغام النون أو حذفها.

.[سورة الزمر: الآيات 65- 66]:

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}.
قرئ: {ليحبطنّ عملك} {وليحبطنّ} على البناء للمفعول. {ولنحبطنّ} بالنون والياء، أى: ليحبطنّ اللّه. أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} على التوحيد؟ قلت: معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت كما تقول كسانا حلة، أي: كل واحد منا: فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية لام الجواب، وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين، أعنى: جوابي القسم والشرط.
فإن قلت: كيف صح هذا الكلام مع علم اللّه تعالى أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} يعنى على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}؟ قلت: يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب اللّه على الرسول أشدّ، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله تعالى {إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ} {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد اللّه، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل اللّه أعبد فاعبد.

.[سورة الزمر: آية 67]:

{وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}.
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهنّ فيقول أنا الملك فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية وإنما ضحك أفصح العرب صلى اللّه عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام اللّه تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره، لما خفى عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير. والمراد بالأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان: قوله جَمِيعًا وقوله: {وَالسَّماواتُ} ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضى كلهن. والقبضة: المرة من القبض {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} والقبضة- بالضم-: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا: أعطنى قبضة من كذا: تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روى: أنه نهى عن خطفة السبع، وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعا قبضته، أي: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أي: ذات أكلته وذات جرعته، تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
فإن قلت. ما وجه قراءة من قرأ {قَبْضَتُهُ} بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم.
{مَطْوِيَّاتٌ} من الطى الذي هو ضدّ النشر، كما قال تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: قبضته: ملكه بلا مدافع ولا منازع، و{بيمينه} بقدرته. وقيل: مطويات بيمينه مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكى حمية لكلام اللّه المعجز بفصاحته، وما منى به من أمثاله، وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ: {مطويات} على نظم السماوات في حكم الأرض، ودخولها تحت القبضة، ونصب مطويات على الحال {سُبْحانَهُ وَتَعالى} ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.