فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَبِئْسَ مَثْوَى} مكان.
{المتكبرين} اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام «إِن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار» {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة} إِسراعًا بهم إلى دار الكرامة، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين.
{زُمَرًا} على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة.
{حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، وقرأ الكوفيون {فُتِحَتْ} بالتخفيف.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ} لا يعتريكم بعد مكروه.
{طِبْتُمْ} طهرتم من دنس المعاصي.
{فادخلوها خالدين} مقدرين الخلود فيها، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث والثواب.
{وَأَوْرَثَنَا الأرض} يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ} أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها.
{فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} الجنة.
{وَتَرَى الملائكة حَافّينَ} محدقين.
{مِنْ حَوْلِ العرش} أي حوله و{مِنْ} مزيدة أو لابتداء الحفوف.
{يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذًا به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم.
{وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين} أي على ما قضي بيننا بالحق. والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين» عن عائشة رضي الله عنها: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)} التفسير: لما ضرب لعبدة الأصنام مثلًا أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى {إذ جاءه} أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله: {للكافرين} لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله: ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله: {أولئك هم المتقون}.
قوله: {ليكفر} ظاهره تعلقه ب {يشاؤن} فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله: الأسوأ هاهنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم: الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين: أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل وكان شيخ المرجئة بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر. ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم برفض آلهتهم وتحقيرها. ويروى أنه بعث خالدًا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها شدّة. فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} أي نبيه بدليل قوله: {ويخوّفونك} ومن قرأ على الجمع فهي للعموم. والآيات إلى قوله: {بوكيل} ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مرارًا. والعذاب الخزي عذاب يوم بدر، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله: {والله يتوفى الأنفس} وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية، والموت والنوم يضاهي الضلال. فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه فكذلك الهداية والضلال، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، ففيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في وجه النظم: إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلًا عن الأصنام. ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها. قال جار الله: أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت {و} يتوفى الأنفس {التي لم تمت في منامها} أي يتوفاها حيت تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى كقوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} [الأنعام: 60] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون في متعلقة ب {يتوفى} والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازًا، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول. وقال الفراء: في متعلقة بالموت وتقديره: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها. ثم بين الفرق بين الحالين بقوله: {فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى} من غير غلط. وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة. وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير، ولهذا ختم الآية بقوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} ثم كان لمشرك أن يقول: إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله: {أم اتخذوا من دون الله} أي من دون إذنه {شفعاء} وأم بمعنى بل، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم. والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئًا ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله: {قل أولو كانوا} يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث {لا يملكون شيئًا ولا يعقلون} والثاني أيضًا مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله: {قل لله الشفاعة} وانتصب {جميعًا} على الحال. ولو كان تأكيدًا للشفاعة لقيل جمعاء.
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله: {له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون} يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له. ثم ذكر نوعًا آخر من قبائح أفعال المشركين فقال: {وإذا ذكر الله وحده} أي منفردًا ذكره عن ذكر آلهتهم {اشمأزت} أي نفرت وانقبضت منه {قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دون} سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر {إذا هم يستبشرون} أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم. وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورًا حتى يظهر أثره في بشرته.
والاشمئزاز أن يمتلىء غمًا وغيظًا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب. وقيل: معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له. نفروا لأن فيه نفيًا لآلهتهم. وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى فاستبشر المشركون وسجدوا ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكره من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات، أمر رسوله بهذا الدعاء {اللهم فاطر السموات والأرض} وهو وصفه بالقدرة التامة {عالم الغيب والشهادة} وهو نعته بالعلم الكامل. وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادرًا متقدم على العلم بكونه عالمًا كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف {أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم. عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بالليل فيقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم. وعن الربيع بين خثيم. وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأه هذه الآية. وروي أنه قال على أثره: قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم. يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه. ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله: {ولو أن للذين ظلموا} أي بالشرك وقد مر نظير الآية مرارًا أوّلها في آل عمران وفيه قوله: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} نظير قوله في أهل الوعد {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] وقيل: عملوا أعمالًا حسبوها حسنات فإذا هي سيئات. يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء. ثم صرح بما أبهم قائلًا {وبدا لهم سيئات ما كسبوا} وما موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف. وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله: {وجزاء سيئة سيئة} [الشورى: 40] وإنما قال في الجاثية {سيئات ما عملوا} [الجاثية: 33] لمناسبة ألفاظ العمل، وههنا قد وقع من ألفاظ الكسب.
ثم حكى نوعًا آخر من قبيح أعمالهم قائلًا {فإذا مسّ الإنسان} وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر هاهنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجأوا إليه وحده عند ضر يصيبهم. ومعنى {أوتيته على علم} أوتيته على علم لله بكوني مستحقًا لذلك أو على علم عندي صار سببًا لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك. ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه {بل هي فتنة} بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر. ذكر الضمير أوّلًا بتأويل المخوّل وأنثه ثانيًا بتأويل النقمة. ثم أشار بقوله: {قد قالها} أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم و{الذين من قبلهم} هم قارون وقومه حيث {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله: {هؤلاء} إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم: أولم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها. وقول الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشتري ** ولا النحس يقضي علينا زحل

ولكنه حكم رب السماء ** وقاضي القضاة تعالى وجل

كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر. والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها. نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم. وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبدالأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عمر: نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم، وكان عمر كاتبًا فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وقيل: نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق. ثم إن قلنا: العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطًا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين. فالمعتزلة شرطوا التوبة، والأشاعرة العفو وقد مر مرارًا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» رواه في الكشاف. وعلى هذا يكون مخصوصًا بشرط الإيمان.
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة: أوّلها تسمية المذنب عبدًا والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين. وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف. وثالثها من جهة وصفهم بقوله: {الذين أسرفوا على أنفسهم} كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ. ورابعها نهاهم عن القنوط، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم. وخامسها قوله: {من رحمة الله} مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول من رحمتي فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف. وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} مع تصدير الجملة ب إن، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار، ومع تأكيد الذنوب بقوله: {جميعًا} أي حال كونها مجموعة. وسابعها إرداف الجملة بقوله: {إنه هو الغفور الرحيم} ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقرونًا بخوفه فقال: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} وذلك أن الأشاعرة أيضًا يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها. ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني. وقال بعضهم: إن الكلام قد تم على الآية الأولى، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله: {وأنيبوا} والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة، وإما الموت لأنه أول أهوال الآخرة. وقوله: {أحسن ما أنزل إليكم} كقوله: {يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وقد مر الأقوال فيه. وحين خوّفهم بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات: الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا.