فصل: تفسير الآية رقم (242):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (242):

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بيّن سبحانه وتعالى هذه الأحكام هذا البيان الشافي كان كأن سائلًا قال: هل يبين غيرها مثلها؟ فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الحكمة البالغة لأنه المحيط بكل شيء {لكم آياته} أي المرئية بما يفصل لكم في آياته المسموعة {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على حال يرجى لكم معها التفكر في الآيات المسموعات والآيات المرئيات كما يفعل العقلاء فيهديكم ذلك إلى سواء السبيل؛ وقد كرر مثل هذا القول كثيرًا وفصلت به الآيات تفصيلًا وكان لعمري يكفي الفطن السالم من مرض القلب وآفة الهوى إيراده مرة واحدة في الوثوق بمضمونه والركون إلى مدلوله، وإنما كرر تنبيهًا على بلاغة الآيات المختومة به وخروجها عن طوق البشر وقدرة المخلوق، وذلك أنهم كلما سمعوا شيئًا من ذلك وهم أهل السبق في البلاغة والظفر على جميع أرباب الفصاحة والبراعة فرأوه فائتًا لقواهم وبعيدًا من قدرهم خطر لهم السؤال عن مثل ذلك البيان ناسين لما تقدم من صادق الوعد وثابت القول بأن الكل على هذا المنوال البديع المثال البعيد المنال، لما اعتراهم من دهش العقول وانبهار الألباب والفهوم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته} أي: كما بيّن الذي تقدم من الأحكام {يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [النساء: 17].
وإنما سموا جهالًا، لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{كذلك يبين الله لكم آياته} أي مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد.
{لعلكم تعقلون} ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات، فإن العقل يرتبك فيها، ولا يكاد يحصل منها على طائل. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: آية 233]:

{وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ}.
يُرْضِعْنَ مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد كامِلَيْنِ توكيد كقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: {أن يكمل الرضاعة} وقرئ الرِّضاعة. بكسر الراء. والرضعة. وأن تتم الرضاعة وأن يتم الرضاعة، برفع الفعل تشبيهًا لأن بما لتأخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف اتصل قوله لِمَنْ أَرادَ بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} لك بيان للمهيت به، أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع.
وعن قتادة: حولين كاملين، ثم أنزل اللَّه اليسر والتخفيف فقال لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أراد أنه يجوز النقصان.
وعن الحسن: ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرًا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت: فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمرًا على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزًا عن الاستئجار. وقيل: أراد الوالدات المطلقات، وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وعلى الذي يولد له وهو الوالد. ولَهُ في محل الرفع على الفاعلية، نحو {عَلَيْهِمْ} في: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فإن قلت لم قيل: {الْمَوْلُودِ} له دون الوالد. قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد:
فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ ** مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، وهو قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئًا}، بِالْمَعْرُوفِ تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا. وقرئ: {لا تكلف} بفتح التاء و{لا نكلف} بالنون. وقرئ: {لا تُضَارُّ} بالرفع على الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، وتضارر بفتحها. وقرأ: {لا تُضَارَّ} بالفتح أكثر القراء. وقرأ الحسن بالكسر على النهى، وهو محتمل للبناءين أيضًا. ويبين ذلك أنه قرئ: {لا تضارَرْ}، ولا تضارِرْ، بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها.
وقرأ أبو جعفر: {لا تضارّ}، بالسكون مع التشديد على نية الوقف. وعن الأعرج {لا تضارْ} بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يصيره. ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. وعن كاتب عمر بن الخطاب: لا تضرر. والمعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبى: اطلب له ظئرًا، وما أشبه ذلك ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنيًا للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد: ويجوز أن يكون {تُضَارَّ} بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أى لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد. فان قلت: كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبىّ منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد وَعَلَى الْوارِثِ عطف على قوله وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أى إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبى الذي لو مات الصبى ورثه. واختلفوا، فعند ابن أبى ليلى كل من ورثه، وعند أبى حنيفة من كان ذا رحم محرم منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد.
وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل: المراد وارث الأب وهو الصبى نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه.
وقيل: {عَلَى الْوارِثِ} على الباقي من الأبوين من قوله: «و اجعله الوارث منا» فَإِنْ أَرادا فِصالًا صادرًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما: أمّا الأب فلا كلام فيه، وأمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبى. وقرئ: {فإن أراد}. استرضع: منقول من أرضع. يقال: أرضعت المرأة الصبى، واسترضعتها الصبى، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى:
أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وقرئ: {ما أتيتم}، من أتى إليه إحسانًا إذا فعله. ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أى مفعولا. وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم، أى ما آتاكم اللَّه وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى. ويجوز أن يكون بعثًا على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحًا لشأن الصبى واحتياطًا في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزًا يدًا بيد، كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يدًا بيد ما أعطيتموهن بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشرى الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.

.[سورة البقرة: الآيات 234- 235]:

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}.
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. وقيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. وقرئ: {يَتوفون} بفتح الياء أى يستوفون آجالهم، وهي قراءة على رضى اللَّه عنه. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفى- بكسر الفاء، فقال اللَّه تعالى. وكان أحد الأسباب الباعثة لعلى رضي اللَّه عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو، تناقضه هذه القراءة يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا يعتددن هذه المدّة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل عشرًا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام.
تقول: صمت عشرًا، ولو ذكرت خرجت من كلامهم. ومن البين فيه قوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} ثم {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فإذا انقضت عدّتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأئمة وجماعة المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التعرّض للخطاب بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ.
وإن فرّطوا كان عليهم الجناح فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ هو أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوّج، وعسى اللَّه أن ييسر لي امرأة صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح، فلا يقول: إنى أريد أن أنكحك، أو أتزوجك، أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد اللَّه بن سليمان عن خالته قالت:
دخل علىَّ أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وحق جدّى علىّ وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر اللَّه لك! أتخطبنى في عدّتى وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وموضعى، قد دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفى عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللَّه وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة. فإن قلت: أى فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت:
الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كقولك: طويل النجاد والحمائل لطول القامة وكثير الرماد للمضياف. والتعريض أن تذكر شيأ تدل به على شيء لم تذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم. ولذلك قالوا:
وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّى تَقَاضِيَا

وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التوبيخ كقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}. فإن قلت: أين المستدرك بقوله وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ؟ قلت: هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه، تقديره: علم اللَّه أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ، ولكن لا تواعدوهنّ سرًا. والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء، لأنه مما يسرّ. قال الأعشى:
وَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا ** عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا

ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا. فإن قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهنّ، أى لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة. أى لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا، أى لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض. ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من {سِرًّا} لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض. وقيل معناه: لا تواعدوهن جماعا، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت، يريد ما يجرى بينهما تحت اللحاف. إلا أن تقولوا قولا معروفا يعنى من غير رفث ولا إفحاش في الكلام. وقيل لا تواعدوهن سرًا: أى في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن، لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا}، هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ من عزم الأمر وعزم عليه، وذكر العزم مبالغة في النهى عن عقدة النكاح في العدّة، لأن العزم على الفعل يتقدّمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه:
ولا تعزموا عَقد عُقدة النكاح. وقيل: معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح: وحقيقة العزم: القطع، بدليل قوله عليه السلام: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروى «لمن لم يبيت الصيام» حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يعنى ما كتب وما فرض من العدّة يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه. غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة.