فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة غافر:
أقول: وجه إيلاء الحواميم السبع سورة الزمر: تآخى المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب وفي مصحف أبي بن كعب: أول الزمر {حم} وذلك مناسبة جليلة ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح ب {حم} وبذكر الكتاب بعد حم، وأنها مكية، بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة وفيها شبه من ترتيب ذوات {الر} الست.
فانظر ثانية الحواميم وهي فصلت، كيف شابهت ثانية ذوات {الر} هود في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب وأن في هود: {كتاب أُحكِمَت آياته ثُم فُصلت} وفي فصلت: {كتاب فصلت آياتهُ} وفي سائر ذوات {الر تلك آيات الكتاب} وفي سائر الحواميم: {تنزيلُ الكتاب} أو {والكتاب} وروينا عن جابر بن زيد وابن عباس في ترتيب نزول السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف ولم يتخللها نزول غيرها وتلك مناسبة جلية واضحة في وضعها هكذا ثم ظهر لي لطيفة أخرى، وهي: أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة فهذه السبع مصدرة ب {حم} وسبع في الربع الذي قبله ذوات {الر} الست متوالية، و{المص} الأعراف، فإنها متصلة بيونس على ما تقدمت الإشارة إليه وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك، وأول النصف الثاني بسورتين وقال الكرماني في العجائب: ترتيب الحواميم السبع لما بينها من التشاكل الذي خصت به، وهو: أن كل سورة منها اسفتحت بالكتاب أو وصفه، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر، وتشاكل الكلام في النظام انتهى قلت: وانظر إلى مناسبة ترتيبها، فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود، التي هي ثانية ذوات {الر} ومطلع الرخرف مؤاخ لمطلع الدخان، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الملك الأعظم الذي يعطي كلًا من عباده ما يستحقه، فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك لا يعارض {الرحمن} الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان لا خفاء معه {الرحيم} الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيمًا، وفي تلك الأرض وملكوت السماء عظيمًا.
{حم} أي هذه حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال.
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال: {تنزيل الكتاب} أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة في جو المعاني والطائرة {من الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال.
ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعدًا ووعيدًا قال: {العزيز العليم}.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل} ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى: {أليس الله بكاف عبده}- إلى قوله: {أليس الله بعزيز ذي انتقام} [الزمر: 37] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال: {قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} [الزمر: 38] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال: {قل لله الشفاعة جميعًا} [الزمر: 44] {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة} {أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر} {الله خالق كل شيء} {له مقاليد السماوات والأرض} ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} ثم قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} ثم اتبع تعالى- ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهًا على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، مع قهره للكل في الدارين معًا، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره، ثم قال تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} تأنيسًا لمن استجاب بحمده، وأناب بلطفه، وجريًا على حكم الرحمة وتغليبها، ثم قال: {شديد العقاب ذي الطول} ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله: {شديد العقاب} بقوله: {غافر الذنب وقابل التوب} وقوله: {ذي الطول} وأشار سبحانه بقوله- {فلا يغررك تقلبهم في البلاد}- إلى قوله قبل {وأورثنا الأرض} وكأنه في تقدير: إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم، وجدالهم في الآيات كجدالهم، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب، وسبق لهم في أم الكتاب- انتهى.
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران- وهو محو الذنب عينًا وأثرًا- مترتبًا على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفًا لكل عاص ومقصر بقوله: {غافر الذنب} أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائمًا فهو معرفة.
قال السمين: نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئًا.
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلامًا بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: {وقابل التوب} وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعًا كتمر وتمرة.
ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معريًا عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلامًا بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} [النحل: 61] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: {شديد العقاب} على أن تنكيره وإبهامه- كما قال الزمخشري- للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معريًا عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: {ذي الطول} أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: {لا إله إلا هو} ولما أنتج هذا كله تفرده، أنتج قطعًا قوله: {إليه} أي وحده {المصير} أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهورًا تامًا، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{حم} وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعًا لا اختلافًا لمعان مذكورة في ص.
{كلمات ربك} على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر {لتنذر} بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح، وقد تؤنث، أو على خطاب الرسول: يعقوب غير رويس {التلاقي} بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل.
{والذين تدعون} على الخطاب: نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان {أشد منكم} ابن عامر. الباقون {منهم}.

.الوقوف:

{حم} ط كوفي {العليم} o لا {الطول} ط {إلا هو} ط {المصير} o {البلاد} o {من بعدهم} ص لعطف الجملتين المتفقتين {فأخذتهم} ط للابتداء بالتهديد {عقاب} o {النار} م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار {آمنوا} ج لحق القول المحذوف {الجحيم} o {وذرياتهم} ط {الحكيم} o وقد يوصل للعطف {السيئات} ط {رحمته} ط {العظيم} o {فتكفرون} o {سبيل} o {كفرتم} ج للابتداء بالشرط مع العطف {تؤمنوا} ط {الكبير} o {رزقًا} ط {ينيب} o {الكافرون} o {ذو العرش} ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال {التلاق} o لا {بارزون} ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف {شيء} ط {اليوم} ط فصلًا بين السؤال والجواب {القهار} o {كسبت} ط {اليوم} ط {الحساب} o {كاظمين} ط {يطاع} o ط {الصدور} o {بالحق} ط {بشيء} ط {البصير} o {من قبلهم} ط {واق} o {فأخذهم الله} ط {العقاب} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي حم بكسر الحاء، والباقون بفتح الحاء، ونافع في بعض الروايات، وابن عامر بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحًا شديدًا، قال صاحب الكشاف: قرئ بفتح الميم وتسكينها، ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو: أين وكيف، أو النصب بإضمار اقرأ، ومنع الصرف إما للتأنيث والتعريف، من حيث إنها اسم للسورة وللتعريف، وإنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل، وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تذكر موقوفة الأواخر.
المسألة الثانية:
الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة، والأقرب هاهنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله: {حم} مبتدأ، وقوله: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} خبر والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقوله: {تَنزِيلَ} مصدر، لكن المراد منه المنزل.
وأما قوله: {مِنَ الله} فاعلم أنه لما ذكر أن {حم تَنزِيلُ الكتاب} وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال: {مِنَ الله} ثم بيّن أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملًا على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه، فبين أن المنزل هو {الله العزيز العليم}.
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو؟ فقال جمع عظيم، أنه العلم بكونه قادرًا وبعده العالم بكونه عالمًا، إذا عرفت هذا فنقول {العزيز} له تفسيران أحدهما: الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني: الذي لا مثل له، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر، لأن قوله تعالى: {الله} يدل على كونه قادرًا، فوجب حمل {العزيز} على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسمًا، والذي لا يكون جسمًا يكون منزّهًا عن الشهوة والنفرة، والذي يكون كذلك يكون منزّهًا عن الحاجة.
وأما {العليم} فهو مبالغة في العلم، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالمًا بكل المعلومات، فقوله: {مِنَ الله العزيز العليم} يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق، الغني المطلق، العالم المطلق، ومن كان كذلك كان عالمًا بوجوه المصالح والمفاسد، وكان عالمًا بكونه غنيًا عن جر المصالح ودفع المفاسد، ومن كان كذلك كان رحيمًا جوادًا، وكانت أفعاله حكمة وصوابًا منزّهة عن القبيح والباطل، فكأنه سبحانه إنما ذكر عقيب قوله: {تَنزِيلَ} هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقًا وصوابًا، وقيل الفائدة في ذكر {العزيز العليم} أمران أحدهما: أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزًا عليمًا لما صح ذلك والثاني: أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزًا لا يغلب وبكونه عليمًا لا يخفى عليه شيء، ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب، فقال: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} فهذه ستة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {غَافِرِ الذنب} قال الجبائي: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة، ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة، وهذه الآية تدل على ذكل وبيانه من وجوه الأول: أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد، وجميع الأنبياء والأولياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبق بينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني: أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقيًا موجودًا فيستر، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها، فمعنى الغفر فيها غير معقول، ولا يمكن حمل قوله: {غَافِرِ الذنب} على الكبيرة بعد التوبة، لأن معنى كونه قابلًا للتوب ليس إلا ذلك، فلو كان المراد غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرًا للذنوب الكبائر قبل التوبة الثالث: أن قوله: {غَافِرِ الذنب} مذكور في معرض المدح العظيم، فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح، وذلك هو كونه غافرًا للكبائر قبل التوبة، وهو المطلوب.