فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (4- 6):

قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جوابًا لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بيانًا لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذمًا لمن يريد إبطاله وإخفاءه: {ما يجادل} أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده {في آيات} وأظهر موضع الإضمار تعظيمًا للآيات فقال: {الله} أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى: {إلا الذين كفروا} أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبسًا على أنفسهم وتلبيسًا على غيرهم.
ولما ثبت أن الحشر لابد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال، تسبب عن ذلك قوله: {فلا يغررك تقلبهم} أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم {في البلاد} فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق، أو أن أحدًا يحميهم علينا، فلابد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله.
ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمدًا ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين، فقال مشيرًا بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة، وتلاشيهم عند المصادمة، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم: {كذبت} ولما كان تكذيبهم عظيمًا وكان زمانه قديمًا وما قبله من الزمان قليلًا بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقًا بجميع الزمان، فقال من غير خافض: {قبلهم} ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزبًا واحدًا مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال: {قوم نوح} أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزبًا واحدًا لم يفرقهم شيء.
ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: {والأحزاب} أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عددًا، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم}.
ولما كان التذكيب وحده كافيًا في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال: {وهمَّت كل أمة} أي من الأحزاب المذكورين {برسولهم} أي الذي أرسلناه إليهم.
ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال: {ليأخذوه} ولما كان سوق الكلام هكذا دالًا على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفًا للمفعول تعميمًا: {وجادلوا بالباطل} أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال: {ليدحضوا} أي ليزلقوا فيزيلوا {به الحق} أي الثابت ثباتًا لا حيلة في إزالته.
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه، قال صارفًا القول إلى المتكلم دفعًا للالباس، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغارًا لهم: {فأخذتهم} أي أهلكتهم وهم صاغرون غضبًا عليهم وإهانة لهم.
ولما كان أخذه عظيمًا، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال: {فكيف كان عقاب} ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد.
ولما كان التقدير: فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها {حقت} بالأخذ والنكال {كلمت} وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفًا به صلى الله عليه وسلم وبشارة له بالرفق بقومه فقال: {ربك} أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك.
ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق، وذلك تغطية للدليل الحق وتلبيس، كان الحال أحق بالتعبير بالكفر الذي معناه التغطية فلذا قال تعالى: {على الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر وقتًا ما كلهم سواء هؤلاء العرب وغيرهم، لأن علة الإهلاك واحدة، وهي التكذيب الدال على أن من تلبس به مخلوق للنار، ثم أبدل من الكلمة فقال: {أنهم أصحاب النار} أي من كفر في حين من الأحيان فهو مستحق للنار في الأخرى كما أنه مستحق للأخذ في الدنيا لا يبالي الله به بالة، فمن تداركته الرحمة بالتوبة، ومن أوبقته اللعنة بالإصرار هلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال: {مَا يجادل في ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} [النمل: 125] وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال: {مَا يجادل في ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} وقال: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وقال: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} وقال صلى الله عليه وسلم: «إن جدالًا في القرآن كفر» فقوله إن جدالًا على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال لأجل تقريره والذب عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن جدالًا في القرآن كفر» وقال: «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر».
المسألة الثانية:
الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق.
ثم قال تعالى: {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش، فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون، ثم كشف عن هذا المعنى فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم، كما قال في سورة ص [12، 13] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأحزاب} وقوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أمَة بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي وعزمت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه {وجادلوا بالباطل} أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بإيراد الشبهات {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا، فكيف كان عقابي إياهم، أليس كان مهلكًا مستأصلًا مهيبًا في الذكر والسماع، فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله، ثم كشف عن هذا المعنى فقال: {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أصحاب النار} أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضًا على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب الكشاف {أَنَّهُمْ أصحاب النار} في محل الرفع بدل من قوله: {كلمة ربك} أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار.
ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء الله بالسعادة والشاقوة لازم لا يمكن تغييره، فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان، لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة، ولتمكنوا من إبطال علم الله وحكمته، ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكنًا من كل ما هو من لوازمه، ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه الآية فحينئذ كانوا قد آمنوا بأنهم لا يؤمنون أبدًا، وذلك تكليف ما لا يطاق، وقرأ نافع وابن عامر {حَقَّتْ كلمات رَبَّكَ} على الجمع والباقون على الواحد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله تعالى.
وقد دل على ذلك في قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5].
فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله.
وقد مضى هذا المعنى في البقرة عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} [البقرة: 258] مستوفى.
{فَلاَ يَغْرُرْكَ} وقرئ: {فَلاَ يَغُرَّكَ} {تَقَلُّبُهُمْ} أي تصرفهم {فِي البلاد} فإني وإن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم.
قال ابن عباس: يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن.
وقيل: {لاَ يَغْرُرْكَ} ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا.
وقال الزجاج: {لاَ يَغْرُرْكَ} سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدّهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل.
{والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمَن بعدهم.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي ليحبسوه ويعذبوه.
وقال قتادة والسدّي: ليقتلوه.
والأخذ يرِد بمعنى الإهلاك؛ كقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44].
والعرب تسمي الأسير الأخيذ؛ لأنه مأسور للقتل؛ وأنشد قطرب قول الشاعر:
فإمّا تأخُذونِي تَقْتُلونِي ** فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودِي

وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما عند دعائه لهم.
الثاني عند نزول العذاب بهم.
{وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي ليزيلوا.
ومنه مكان دَحْض أي مَزْلَقة، والباطل داحض؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر.
قال يحيى بن سلاّم: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان.
{فَأَخَذْتُهُمْ} أي بالعذاب.
{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي عاقبة الأمم المكذبة.
أي أليس وجدوه حقًا.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ} أي وجبت ولزمت؛ مأخوذ من الحق لأنه اللازم.
{كَلِمَةُ رَبِّكَ} هذه قراءة العامة على التوحيد.
وقرأ نافع وابن عامر: {كَلِمَاتُ} جمعًا.
{عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ} قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم.
قال الزجاج: ويجوز إنهم بكسر الهمزة.
{أَصْحَابُ النار} أي المعذَّبون بها وتم الكلام. اهـ.