فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والباء في قوله: {بالباطل} للملابسة، أي جادلوا ملابسين للباطل فالمجرور في موضع الحال من الضمير، أو الباء لِلآلة بتنزيل الباطل منزلة الآلة لِجدالهم فيكون الظرف لغوًا متعلقًا ب {جادلوا}.
وتقييد {جادلوا} هذا بقيد كونه {بالباطل} يقتضي تقييد ما أطلق في قوله: {مَا يُجَادل في آيات الله إلاَّ الذينَ كَفَرُوا}.
والإِدحاض: إبطال الحجة، قال تعالى: {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16].
والمعنى: أنهم زوروا الباطل في صورة الحقّ وروّجوه بالسفسطة في صورة الحُجَّة ليبْطلوا حجج الحق وكفى بذلك تشنيعًا لكفرهم.
وفُرع على قوله: {فأخذتهم}.
قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} كما فُرّع قوله: {فَلا يَغررك تَقَلُّبهم في البِلاد} [غافر: 4] على جملة {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] فيجري توجيه الاستفهام هنا على نحو ما جرى من توجيه الخطاب هناك.
والأخذ هنا: الغَلب.
والاستفهام ب {كيف كانَ عقاب} مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى: {وإنها لبسبيل مقيم} [الحجر: 76] ونحوه، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم وتوصيفهم، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم، ففي هذا الاستفهام تحقيق وتثبيت لمضمون جملة {فأخذتهم}.
ويجوز أن يكون في هذا الاستفهام معنى التقرير بناء على أن المقصود بقوله: {كذَّبَت قبلهم قوم نوح} إلى قوله: {فأخذتهم} التعريض بتهديد المشركين من قريش بتنبيههم على ما حلّ بالأمم قبلهم لأنهم أمثالهم في الإِشراك والتكذيب فلذلك يكون الاستفهام عمّا حلّ بنظرائهم تقريريًا لهم بذلك.
وحذفت ياء المتكلم من {عقاب} تخفيفًا مع دلالة الكسرة عليها.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)} الواو عاطفة على جملة {فكيف كان عِقَاب} [غافر: 5]، أي ومثل ذلك الحَقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدَر المأخوذ من قوله: {حَقَّت كَلِماتُ رَبك} على نحو ما قرر غير مرة، أولاها عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} في سورة البقرة (143)، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه.
ولك أن تجعل المشار إليه الأخْذَ المأخوذ من قوله: {فأخذتهم} [غافر: 5]، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذِ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقًا لكلمات الله، أي تصديقًا لما أخبرهم به من الوعيد، فالمراد ب {الذين كفروا} جميع الكافرين، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون {الذينَ كَفَروا} أعم.
وبذلك يكون التشبيه في قوله: {وكذلك حقت كلمات ربك} جاريًا على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به، وليس هو من قبيل قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] ونظائره.
ويجوز أن يكون المراد ب {الذين كفروا} عين المراد بقوله آنفًا: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم.
و{كلمات الله} هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين، و{على الذين كفروا} يتعلق ب {حقت}.
وقوله: {أنهم أصحابُ النَّار} يجوز أن يكون بدلًا من {كلمات ربك} بدلًا مطابقًا فيكون ضمير {أنَّهُم} عائد إلى {الذين كفروا} أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين.
ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفةٍ على طريقة كثرة حذفها قبل أنَّ.
والمعنى: لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير {أنَّهُم} عائدًا إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا.
وقرأ الجمهور {كلمة ربك} بالإِفراد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإِفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب {على} تعلق بفعل {حَقَّت} وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنسًا صادقًا بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعَّدة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} سبع الحواميم مكيات، قالوا بإجماع.
وقيل: في بعض آيات هذه السور مدني.
قال ابن عطية: وهو ضعيف.
وفي الحديث: «أن الحواميم ديباج القرآن» وفيه: «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم»، وفيه: «مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب وهذه الحواميم مقصورة على المواغظ والزجر وطرق الآخرة وهي قصار لا تلحق فيها سآمة».
ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين، ذكر هنا أنه تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان، وإلى الإقلاع عما هو فيه، وأن باب التوبة مفتوح.
وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم فيه ليرتدع عما هو فيه، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر.
وقرئ: بفتح الحاء، اختيار أبي القاسم بن جبارة الهذلي، صاحب كتاب: الكامل في القرآن، وأبو السمال: بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وابن أبي إسحاق وعيسى: بفتحها، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين، وكانت فتحة طلبًا للخفة كأين، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم.
وفي الحديث: أن أعرابيًا سأل رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم عن حم ما هو؟ فقال: «أسماء وفواتح سور» وقال شريح بن أبي أوفى العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ** فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حميم آية ** تأولها منا تقي ومعرب

أعربا حاميم، ومنعت الصرف للعلمية، أو العلمية وشبه العجمة، لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب، وإنما وجد ذلك في العجم، نحو: قابيل وهابيل.
وتقدم فيما روي في الحديث جمع حم على الحواميم، كما جمع طس على الطواسين.
وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه ابن منصور اللغوي أنه قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب؛ والصواب أن يقول: قرأت آل حم.
وفي حديث ابن مسعود: «إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات دمثات» انتهى.
فإن صح من لفظ الرسول أنه قال: «الحواميم كان حجة على من منع ذلك» وإن كان نقل بالمعنى، أمكن أن يكون من تحريف الأعاجم.
ألا ترى لفظ ابن مسعود: «إذا وقعت في آل حميم» وقول الكميت: وجدنا لكم في آل حاميم؟ وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة، وقد زادوا في حاميم أقوالًا هنا، وهي مروية عن السلف، غنينا عن ذكرها، لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها.
فإن كانت حم اسمًا للسورة، كانت في موضع رفع على الابتداء، وإلا فتنزيل مبتدأ، ومن الله الخبر، أو خبر ابتداء، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل.
و{العزيز العليم} صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم، وهما من صفات الذات.
وقال الزجاج: غافر وقابل صفتان، وشديد بدل. انتهى.
وإنما جعل غافر وقابل صفتين وإن كانا اسمي فاعل، لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت؛ وإضافتهما محضة فيعرف، وصح أن يوصف بهما المعرفة، وإنما أعرب {شديد العقاب} بدلًا، لأنه من باب الصفة المشبهة، ولا يتعرف بالأضافة إلى المعرفة، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة، إذا أضيف إلى معرفة، جاز أن ينوي بإضافته التمحض، فيتعرف وينعت به المعرفة، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة، فإنه لا يتعرف.
وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة، قال: وذلك خطأ عند البصريين، لأن حسن الوجه نكرة، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل.
وقال أبو الحجاج الأعلم: لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف، لأن الإضافة لا تمنع منه.
انتهى، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين.
وقد جعل بعضهم {غافر الذنب} وما بعده أبدالًا، اعتبارًا بأنها لا تتعرف بالإضافة، كأنه لاحظ في غافر وقابل زمان الاستقبال.
وقيل: غافر وقابل لا يراد بهما المضي، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا.
قال الزمخشري: جعل الزجاج {شديد العقاب} وحده بدلًا بين الصفات فيه نبو ظاهر، والوجه أن يقال: لنا صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها أنها من الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل، ولا نبو في ذلك، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل.
وقوله: فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لما قام زيد فقد قام عمرو، وقوله: بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وأما بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها، أو منعه، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر، وذلك في قول الشاعر:
فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتي ** عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه ** عرفوا موارد مزنه لا تنزف

قال: فملك بدل من عمرو، بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلت: لم لا يكون بدلًا من ابن أم أناس؟ قلت: لأنه قد أبدل منه عمرو، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى، لأنه قد طرح.
انتهى.
فدل هذا على أن البدل لا يتكرر، ويتحد المبدل منه؛ ودل على أن البدل من البدل جائز، وقوله: جاءت تفاعيلها، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولًا في آخر العروض، بل أجزاؤها منحصرة، ليس منها شيء من هذه الأوزان، فصوابه أن يقول: جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلين.
وقال سيبويه أيضًا: ولقائل أن يقول هي صفات، وإنما حذفت الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظًا، فقد غيروا كثيرًا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع.
على أن الخليل قال في قولهم: لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل، على نية الألف واللام، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام.
ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف. انتهى.
ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من شديد العقاب، وترك ما هو أصل في النحو، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع، وينزه كتاب الله عن ذلك كله.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة، وعلى ما لا شيء أدهى منه، وأمر لزيادة الإنذار.
ويجوز أن يقال هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. انتهى.
وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملًا على أنهما نكرتان لاستقبالهما، والوصف حملًا على أنهما معرفتان لمضيهما.
وقال أبو عبد الله الرازي: لا تزاع في جعل غافر وقابل صفة، وإنما كانا كذلك، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد، فمعناه: كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبدًا، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن. انتهى.
وهذا كلام من لم يقف على علم النحو، ولا نظر فيه، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله: {من لدن حكيم عليم} ومليك مقتدر من قوله: {عند مليك مقتدر} معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو، فضلًا عمن صنف فيه، وقدم على تفسير كتاب الله.
وتلخص من هذا الكلام المطوّل أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف، لأن المعطوف على الوصف وصف، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع.
أو غافر وقابل وصفان، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما بال الواو في قوله: {وقابل التوب}؟ قلت: فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. انتهى.
وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته، والذي أفاد أن الواو وللجمع، وهذا معروف من ظاهر علم النحو.
وقال صاحب الغنيان: وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، وقطع شديد العقاب عنهما فلم يعطف لانفراده.