فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره.
ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمرًا لا يحتمله العقول، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهًا على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال: {وسعت كل شيء} ثم بين جهة التوسع بقوله تميزًا محولًا عن الفاعل: {رحمة} أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك {وعلمًا} أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جلبته عليه مما يقتضي إهانة أو إكرامًا.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: {فاغفر للذين تابوا} أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها {واتبعوا} أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا {سبيلك} المستقيم الذي لا لبس فيه.
ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: {وقهم عذاب الجحيم} أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء.
ولما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب، قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان {وأدخلهم جنات عدن} أي إقامة لا عناد فيها.
ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء، نبهوا على ذلك بقولهم: {التي وعدتهم} مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات.
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال: {ومن صلح من آبائهم} ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا: {وأزواجهم وذرياتهم}.
ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى: {إنك أنت} أي وحدك {العزيز} فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن {الحكيم} فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه.
ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم، وفيه من الأخلاق ما ربما حمله على بعض الأفعال الناقصة دعوا لهم بالكمال فقالوا: {وقهم السيئات} أي بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها بتطهير القلوب بنزع كل ما يكره منها أو بأن يغفرها لهم ولا يجازيهم عليها، وعظموا هذه الطهارة ترغيبًا في حمل النفس في هذه الدار على لزومها بقمع النفوس وإماتة الحظوظ بقولهم: {ومن تق السيئات} أي جزاءها كلها {يومئذ} أي يوم إذ تدخل فريقًا الجنة وفريقًا النار المسببة عن السيئات أو إذ تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين: {فقد رحمته} أي الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها أن يسمى معها رحمة، فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا: {وذلك} أي الأمر العظيم جدًّا {هو} أي وحده {الفوز العظيم} فالآية من الاحتباك: ذكر إدخال الجنات أولًا دليلًا على حذف النجاة من النار ثانيًا، ووقاية السيئات ثانيًا دليلًا على التوفيق للصالحات أولًا، وسر ذلك التشويق إلى المحبوب- وهو الجنان- بعمل المحبوب- وهو الصالح- والتنفير من النيران باجتناب الممقوت من الأعمال، وهو السيء فذكر المسبب أولًا وحذف السبب لأنه لا سبب في الحقيقة إلا الرحمة، وذكر السبب ثانيًا في إدخال النار وحذف المسبب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين، بيّن أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنًا، فإن حملة العرش معك والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية:
القسم الأول: {الذين يَحْمِلُونَ العرش} وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية، فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة، ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم، روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقًا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع» قيل إنه طائر صغير، وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلًا لهم على سائر الملائكة، وقيل خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر، هذه الآثار نقلتها من الكشاف.
وأما القسم الثاني: من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهُ} والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} [الزمر: 75] وأقول العقل يدل على أن حملة العرش، والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة، وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد، فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد، وأيضًا يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعلية لجسم العرش أرواح أُخر من جنسها، وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية، وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد، إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد، فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح.
المسألة الثانية:
دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزّه عن أن يكون في العرش، وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية {الذين يَحْمِلُونَ العرش} وقال في آية أخرى {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] ولا شك أن حامل العرش يكون حاملًا لكل من في العرش، فلو كان إله العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإله العالم فحينئذ يكونون حافظين لإله العالم والحافظ القادر أولى بالإلهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية، فحينئذ ينقلب الإله عبدًا والعبد إلها، وذلك فاسد، فدل هذا على أن إله العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام.
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء:
النوع الأول: قوله: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} ونظيره قوله حكاية عن الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] وقوله تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} [الزمر: 75] فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام، فقوله: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} قريب من قوله: {تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام} [الرحمن: 78].
النوع الثاني: مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} فإن قيل فأي فائدة في قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟ قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب الكشاف، وقد أحسن فيه جدًّا فقال إن المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرًا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبًا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرًا جالسًا هناك، ورحم الله صاحب الكشاف فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرًا وشرفًا.
النوع الثالث: مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدمًا على الشفقة على خلق الله فقوله: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} مشعر بالشفقة على خلق الله.
ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر، قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون، وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك» وأيضًا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] فأمر محمدًا أن يذكر أولًا الاستغفار لنفسه، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَّبّ اغفر لِى ولوالدى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [نوح: 28] وهذا يدل على أن كل من كان محتاجًا إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره، فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لكان اشتغالهم بالاستغفار لأنفسهم مقدمًا على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم، ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليل قوله تعالى لمحمد عليه السلام {واستغفر لِذَنبِكَ} وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر، والله أعلم.
المسألة الثانية:
احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين، قال وذلك لأن الملائكة قالوا {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصرًا على الفسق أو لم يكن كذلك، لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعًا سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه، وأيضًا إن الملائكة يقولون {وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} وهذا لا يليق بالفاسقين، لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك، فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة، فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين، فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي، أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه الأول: قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب.
أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارًا الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دللنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة الثالث: قوله تعالى: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} طلب المغفرة للذين تابوا، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة، لأن ذلك واجب على الله عند الخصم، وما كان فعله واجبًا كان طلبه بالدعاء قبيحًا، ولا يجوز أيضًا أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر، لأن ذلك أيضًا واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب، لأن ذلك لا يسمى مغفرة، فثبت أنه لا يمكن حمل قوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق، أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا، فنقول يجب أن يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان، وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائبًا ولا متبعًا سبيل الله، قلنا لا نسلم قوله، بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب، ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضاربًا وضاحكًا صدور الضرب والضحك عنه مرة واحدة، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا ههنا.
المسألة الثالثة:
قال أهل التحقيق: إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت، وذلك لأنهم قالوا في أول تخليق البشر {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} [البقرة: 30] فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا، بيّن كيفية ذلك الاستغفار، فحكى عنهم أنهم قالوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفط {رَبَّنَا} ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا {رَبَّنَا} بدليل هذه الآية، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وقال نوح عليه السلام {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] وقال أيضًا: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5] وقال أيضًا: {رَّبّ اغفر لِى ولوالدى} [نوح: 28] وقال عن إبراهيم عليه السلام: {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} [البقرة: 260] وقال: {رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] وقال عن يوسف {رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك} [يوسف: 101] وقال عن موسى عليه السلام: {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وقال في قصة الوكز {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 16، 17] وحكى تعالى عن داود {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وعن سليمان أنه قال: {رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا} [ص: 35] وعن زكريا أنه {نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3] وعن عيسى عليه السلام أنه قال: {رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} [المائدة: 114] وعن محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال له: {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} [المؤمنون: 97] وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات، وحكى أيضًا عنهم أنهم قالوا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] إلى آخر السورة.