فصل: تفسير الآيات (13- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (13- 17):

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك بقوله ذاكرًا من آيات الآفاق العلوية ما يرد الموفق عن غيه: {هو} أي وحده {الذي يريكم} أي بالبصر والبصيرة {آياته} أي علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال تكميلًا لنفوسكم، فينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بإعادة ما تحطم فيها من الحبوب فتفتتت بعد موتها بصيرورة ذلك الحب ترابًا لا تميز له عن ترابها فيتذكر به البعث لمن انمحق فصار ترابًا وضل في تراب الأرض حتى لا تميز له عنه من طبعه الإنابة، وهو الرجوع عما هو عليه من الجهل إلى الدليل بما ركز في فطرته من العلم، وذلك هو معنى قوله: {وينزل لكم} أي خاصًا بنفعكم أو ضركم {من السماء} أي جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله {رزقًا} لإقامة أبدانكم من الثمار والأقوات بانزال الماء فهو سبحانه يدلكم عليه ويتحبب إليكم لتنفعوا أنفسكم وأنتم تتبغضون إليه وتتعامون عنه لتضروها {وما يتذكر} ذلك تذكرًا تامًا- بما أشار إليه الإظهار- فيقيس عليه بعث من أكلته الهوام، وانمحق باقيه في الأرض {إلا من ينيب} أي له أهلية التجديد في كل وقت للرجوع إلى الدليل بأن يكون حنيفًا ميالًا للطافته مع الدليل حيثما مال.
ما هو بحلف جامد ما الفه، ولا يحول عنه أصلًا، لا يصغي إلي قال ولا قيل، ولو قام على خطابه كل دليل.
ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأمورًا بالنظر في الدليل مأمورًا بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سببًا في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سببًا لإخلاصهم، فقال تعالى مسببًا عنه: {فادعوا} وصرح بالاسم الأعظم تدريبًا للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال: {الله} أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل {مخلصين له الدين} أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصًا اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص.
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: {ولو كره} أي الدعاء منكم {الكافرون} أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلًا من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه- سبحانه وما أعز شأنه- بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحًا في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص.
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثًا عليه وتشويقًا إليه بقوله ممثلًا بما يفهمه العباد مخبرًا عن مبتدأ محذوف تقديره: هو {رفيع الدرجات} أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.
ولما كنا لا نعرف ملكًا إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في {سأل} بصيغة منتهى الجموع {المعارج}- ثم قال ممثلًا لنا بما نعرف: {ذو العرش} أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: {يلقي الروح} أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح {من أمره} أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك.
ولما كان أمره عاليًا على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {على من يشاء} ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله: {من عباده} وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم {أو أنزل عليه الذكر من بيننا} [ص: 8] بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات.
قال الرازي: قال ابن عطاء: حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة والخدمة، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله، فهو ميت في الباطن، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد- انتهى.
وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم، وتصرفهم في عظيم شأنهم.
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بيانًا من ثمرة الإرسال فقال: {لينذر} أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره {يوم التلاق} أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جدًّا في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين: أحدهما بالآخر فإنه- والله أعلم- قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره: الأسعدين بغير حساب، والأخسرين لا يقام لهم وزن، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض.
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيدًا ذكر اليوم لأنه أهول له: {يوم هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {بارزون} أي برزوا لا ساتر فيه أصلًا.
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفًا في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظمًا الأمر بإظهار الاسم الأعظم: {لا يخفى على الله} أي المحيط علمًا وقدرة {منهم شيء} أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره.
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصيانهم ويندمهم قال: {لمن الملك اليوم} أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال:
سكت الدهر طويلًا عنهم ** قد أبكاهم دمًا حين نطق

{لله} أي الذي له جميع صفات الكمال، ثم دل على ذلك بقوله: {الواحد} أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها {القهار} أي الذي يقهر من يشاء متكررًا وصفه بذلك دائمًا أبدًا لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة.
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال: {اليوم تجزى} أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه {كل نفس} لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم.
ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب، لأن ذلك شأن الملك، قال معبرًا بالباء والكسب: {بما} أي بسبب ما {كسبت} أي عملت، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت يكال لها.
ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللًا نافيًا مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا: {لا ظلم} أي بوجه من الوجوه {اليوم} ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمرًا لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة ** له شاهد من نفسه غير عائل

ضافت النفوس من خوف الطول، فخفف عنها بقوله معلمًا أن أموره على غير ما يعهدونه، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم: {إن الله} أي التام القدرة الشامل العلم {سريع الحساب} أي بليغ السرعة فيه، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير، ولا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب، ولا شيء، فكان في ذلك ترجية للفريقين وتخويف، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليلًا على أنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية، فقال: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءاياته} واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان، ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان، فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات.
ثم قال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل، إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} من الشرك، ومن الالتفات إلى غير الله {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد.
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهرًا للآيات منزلًا للأرزاق، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح} قال صاحب الكشاف ثلاثة أخبار لقوله: {هُوَ} مرتبة على قوله: {الذى يُرِيكُمُ} [غافر: 13] أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفًا وتنكيرًا، قرئ {رَفِيعُ الدرجات} بالنصب على المدح، وأقول لابد من تفسير هذه الصفات الثلاثة:
الصفة الأولى: قوله: {رَفِيعُ الدرجات} واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول: أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة والثاني: رافع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة، فهو سبحانه عين لكل أحد من الملائكة درجة معينة، كما قال: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال: {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات} [المجادلة: 11] وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية عنصرية، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني، وأيضًا جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل، فقال: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} [الأنعام: 165] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي، الذي هو أول لكل ما سواه، وليس له أول وآخر لكل ما سواه، وليس له آخر، أما في العلم: فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات، كما قال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وأما في القدرة: فهو أعلى القادرين وأرفعهم، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه، وأما في الوحدانية: فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير، وأقول: الحق سبحانه له صفتان أحدهما: استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني: افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام، وإن فسرناه بالرافع، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته.