فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليحصل من تقديم المسند إليه على المسند الفعلي تقوِّي المعنى، ومنه قوله تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} [الأنفال: 36] أعيد الموصول ولم يؤت بضمير {الذين كفروا} ليُفيد تقديمُ الاسم على الفعل تقوّي الحكم.
والجملة من تمام الغرض الذي سيقت إليه جملة {يعلم خائنة الأعين} [غافر: 19] كما تقدم، وكلتاهما ناظرة إلى قوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع} [غافر: 18] أي أن ذلك من القضاء بالحق.
وأما جملة {والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء} فناظرة إلى جملة {ما للظالمين من حميم ولا شفيع} [غافر: 18] فبعد أن نُفي عن أصنامهم الشفاعة، نُفيَ عنها القضاءُ بشيء مَّا بالحق أو بالباطل وذلك إظهار لعجزِها.
ولا تحْسِبنَّ جملةَ {والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء} مسوقةً ضميمة إلى جملة: {والله يقضي بالحق} ليفيد مجموع الجملتين قصر القضاء بالحق على الله تعالى قَصْرَ قلب، أي دون الأصنام، كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قول السمَوْأل أو عبد الملك الحارثي:
تَسيل على حد الظُّبات نفوسنا ** وليست على غير الظُّبات تسيل

لأن المنفي عن آلهتهم أعمّ من المثبت لله تعالى، وليس مثل ذلك مما يضاد صيغة القصر لكفى في إفادته تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بحَمْله على إرادة الاختصاص في قوله: {والله يقضي بالحق}.
فالمراد من قوله: {والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء} التذكير بعجز الذين يدعونهم وأنهم غير أهل للإِلهية، وهذه طريقة في إثبات صفة لموصوف ثم تعقيب ذلك بإظهار نقيضه فيما يُعدّ مساويًا له كما في قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارمُ لا قَعْبَاننِ من لَبَن ** شيبًا بماءٍ فصار فيما بعدُ أبوالا

وإلاَّ لما كان لعطف قوله: لا قَعْباننِ من لبن، مناسبة.
والدعاء يجوز أن يكون بمعنى النداء وأن يكون بمعنى العبادة كما تقدم آنفًا.
وجملة {إن الله هو السميع البصير} مقررة لجمل {يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور} إلى قوله: {لا يَقْضُون بشيء} [غافر: 19، 20].
فتوسيط ضمير الفصل مفيد للقصر وهو تعريض بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر فكيف ينسبون إليها الإِلهية، وإثبات المبالغة في السمع والبصر لله تعالى يُقرر معنى {يَقْضِي بالحق} لأن العالم بكل شيء تتعلق حكمته بإرادة الباطل ولا تخطىء أحكامه بالعثار في الباطل.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد تحقيق للقصر.
وقد ذكر التفتازاني في شرح المفتاح في مبحث ضمير الفصل أن القصر يُؤكَّد.
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر {تدعُون} بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لقرع أسماع المشركين بذلك.
وقرأ الجمهور بياء الغيبة على الظاهر. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ثم أخبر تعالى بحال الكفار وجعل ذلك عقب حال المؤمنين ليبين الفرق، وروي أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار، فإنهم إذا أدخلوا فيها مقتوا أنفسهم، أي مقت بعضهم بعضًا. ويحتمل أن يمقت كل واحد نفسه، فإن العبارة تحتمل المعنيين، والمقت هو احتقار وبغض عن ذنب وريبة. هذا حده، وإذا مقت الكفار أنفسم نادتهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ، فيقولون لهم: مقت الله إياكم في الدنيا إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون {أكبر من مقتكم أنفسكم} اليوم، هذا هو معنى الآية، وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد. وأضاف المصدر إلى الفاعل في قوله: {لمقت الله} والمفعول محذوف لأن القول يقتضيه. واللام في قوله: {لمقت} يحتمل أن تكون لام ابتداء، ويحتمل أن تكون لام القسم، وهذا أصوب. و: {أكبر} خبر الابتداء، والعامل في: {إذ} فعل مضمر تقديره: مقتكم إذ، وقدره قوم اذكروا، وذلك ضعيف يحل ربط الكلام، اللهم إلا أن يقدر أن مقت الله لهم هو في الآخرة، وأنه أكبر من مقتهم أنفسهم، فيصح أن يقدر المضمر اذكروا، ولا يجوز أن يعمل فيه قوله: {لمقت} لأن خبر الابتداء قد حال بين المقت و{إذ} وهي في صلته، ولا يجوز ذلك.
واختلف المفسرون في معنى قولهم: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك: أرادوا موته كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [البقرة: 28]. وقال ابن زيد: أرادوا أنه أحياهم نسمًا عند أخذ العهد عليهم قت أخذهم من صلب آدم ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم، وهذا قول ضعيف، لأن الإحياء فيه ثلاث مرات. وقال السدي: أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم تم أحياهم في القبر وقت سؤال منكر ونكير، ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر، وهذا أيضًا يدخله الاعتراض الذي في القول قبله، والأول أثبت الأقوال. وقال محمد بن كعب القرظي: أرادوا أن الكافر في الدنيا هو حي الجسد ميت القلب فكأن حالهم في الدنيا جمعت إحياء وإماتة، ثم أماتهم حقيقة ثم أحياهم بالبعث.
والخلاف في هذه الآية مقول كله في آية سورة البقرة، وهذه الآية يظهر منها أن معناها منقطع من معنى قوله تعالى: {إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} وليس الأمر كذلك، بل الآيتان متصلتا المعنى، وذلك أن كفرهم في الدنيا كان أيضًا بإنكارهم البعث واعتقادهم أنه لا حشر ولا عذاب، ومقتهم أنفسهم إنما عظمه، لأن هذا المعتقد كذبهم، فلما تقرر مقتهم لأنفسهم ورأوا خزيًا طويلًا عريضًا رجعوا إلى المعنى الذي كان كفرهم به وهو البعث وخرج الوجود مقترنًا بعذابهم فأقروا به على أتم وجوهه، أي قد كنا كفرنا بإنكارنا البعث ونحن اليوم نقر أنك أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين، كأنهم قصدوا تعظيم قدرته تعالى واسترضاءه بذلك، ثم قالوا عقب هذا الإقرار طمعًا منهم، فها نحن معترفون بذنوبنا {فهل إلى خروج من سبيل}؟ وهذا كما تكلف إنسانًا أن يقر لك بحق وهو ينكرك، فإذا رأى الغلبة وضرع أقر بذلك الأمر متممًا أوفى مما كنت تطلب به أولًا، وفيما بعد قولهم: {فهل إلى خروج من سبيل} محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره: لا إسعاف لطلبتكم أو نحو هذا من الرد والزجر.
وقوله تعالى: {ذلكم} يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقت الله إياهم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقتهم أنفسهم، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المنع والزجر والإهانة التي قلنا إنها مقدرة محذوفة الذكر لدلالة ظاهر القول عليها، ويحتمل أن تكون المخاطبة ب {ذلكم} لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ويحتمل أن تكون في الآخرة للكفار عامة. وقوله: {إذا دعي الله وحده} معناه: بحالة توحيد ونفي لما سواه من الآلهة والأنداد.
وقوله: {وإن يشرك به} أي إذا ذكرت اللات والعزى وغيرهما صدقتم واستقرت نفوسكم، فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار، لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية. و: {العلي الكبير} صفتا مدح لا في المكان ومضادة السفل والصغر.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك، وآيات الله: تعم آيات قدرته وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله. وتنزيل الرزق: هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء والحكم، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس: {ويُنْزِل} بالتخفيف. وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة: {وينَزِّل} بفتح النون وشد الزاي.
وقوله تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} معناه: وما يتذكر تذكرًا يعتد به وينفع صاحبه، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن.
وقوله: {فادعوا الله} مخاطبة للمؤمنين أصحاب محمد عليه السلام.
وادعوا: معناه: اعبدوا.
وقوله تعالى: {رفيع الدرجات} صفاته العلى، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين، ويحتمل أن يريد ب {رفيع الدرجات} التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة. و: {العرش} هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض.
وقوله تعالى: {يلقي الروح} قال الضحاك: {الروح} هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل. وقال قتادة والسدي: {الروح} النبوءة ومكانتها كما قال تعالى: [الشورى: 52] ويسمى هذا روحًا لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عامًا لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة. والمنذر على هذا التأويل: هو الله تعالى. قال الزجاج: {الروح} كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال كالميت.
وقوله: {من أمره} إن جعلته جنسًا للأمور ف {من} للتبعيض أو لابتداء الغاية، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام: ف {من} إما لابتداء الغاية، وإما بمعنى الباء، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب: وجماعة: {لينذِر} بالياء وكسر الذال، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى، ويحتمل أن يعود على {الروح} ويحتمل أن يعود على {من} في قوله: {من يشاء}. وقرأ محمد بن السميفع اليماني: {لينذَر} بالياء وفتح الذال، وضم الميم من {يومُ} وجعل اليوم منذرًا على الاتساع. وقرا جمهور الناس: {لتنذر} بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام، و{يومَ} بالنصب.
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة: {التلاق} دون ياء. وقرأ أبو عمرو أيضًا وعيسى ويعقوب: {التلاقي} بالياء، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في {التنادي} [غافر: 32]، ومعناه: تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم، وقال السدي: معناه: تلاقي أهل السماء وأهل الأرض، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفًا، وقيل يلتقي المرء وعمله.
وقوله تعالى: {يوم هم بارزون} معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، ونصب {يوم} على البدل من الأول فهو نصب المفعول، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل فيه قوله: {لا يخفى} وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن كيومئذ، وكقول الشاعر النابغة الذبياني: الطويل:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصحُ والشيب وارع

وكقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين} [المائدة: 119] وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول: جئت يوم زيد فلا يجوز البناء، وتأمل.
وقوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم} أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم، وفي مصحف أبي بن كعب: {لا يخفى عليه منهم شيء} بضمير بدل المكتوبة.
وقوله تعالى: {لمن الملك اليوم} روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعًا، فيجيب هو نفسه قوله: {لله الواحد القهار} قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب. وقال ابن مسعود: أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس.
قال القاضي أبو محمد: وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله، فالزمان كله وأيام الدهر أجمع إنما الملك فيها {لله الواحد القهار} لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة، وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل.
ثم يعلم تعالى أهل الموقف بأنه يوم المجازاة بالأعمال صالحها وسيئها، وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبيد، وأنه يوم لا يوضع فيه أمر غير موضعه، وذلك قوله: {لا ظلم اليوم}. ثم أخبرهم عن نفسه بسرعة الحساب، وتلك عبارة عن إحاطته بالأشياء علمًا، فهو يحاسب الخلائق في ساعة واحدة كما يرزقهم، لأنه لا يحتاج إلى عد وفكرة، لا رب غيره، وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالإنذار للعالم والتحذير من يوم القيامة وأهواله، وهو الذي أراد ب {يوم الآزفة} قاله مجاهد وقتادة وابن زيد: ومعنى {الآزفة} القريبة، من أزف الشيء إذا قرب، و{الآزفة} في الآية صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله، فعبر عنه بالقرب تخويفًا، والتقدير: يوم الساعة الآزفة أو الطامة الآزفة ونحو هذا فكما لو قال: وأنذرهم الساعة لعلم هولها بما استقر في النفوس من أمرها، فكذلك علم هنا إذا جاء بصفتها التي تقتضي حلولها واقترابها.
وقوله: {إذ القلوب لدى الحناجر} معناه: عند الحناجر، أي قد صعدت من شدة الهول والجزع، وهذا أمر يحتمل أن يكون حقيقة يوم القيامة من انتقال قلوب البشر إلى حناجرهم وتبقى حياتهم، بخلاف الدنيا التي لا تبقى فيها لأحد مع تنقل قلبه حياة، ويحتمل أن يكون تجوزًا عبر عما يجده الإنسان من الجزع وصعود نفسه وتضايق حنجرته بصعود القلب، وهذا كما تقول العرب: كادت نفسي أن تخرج، وهذا المعنى يجده المفرط الجزع كالذي يقرب للقتل ونحو.
وقوله: {كاظمين} حال مما أبدل منه قوله: {إذ القلوب لدى الحناجر} أو مما تتضاف إليه القلوب، لأن المراد إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، وهذا كقوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار مهطعين إلى الداع} [القمر: 8] أراد تشخص فيه أبصارهم، والكاظم: الذي يرد غيظه وجزعه في صدره، فمعنى الآية أنهم يطمعون برد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم. ثم أخبرهم تعالى أن الظالمين ظلم الكفر في تلك الحال ليس لهم حميم، أي قريب يحتم لهم ويتعصب، ولا لهم شفيع يطاع فيهم، وإن هم بعضهم بالشفاعة لبعض فهي شفاعة لا تقبل، وقد روي أن بعض الكفرة يقولون لإبليس يوم القيامة: اشفع لنا، فيقوم ليشفع، فتبدو منه أنتن ريح يؤذي بها أهل المحشر، ثم ينحصر ويكع ويخزى. و: {يطاع} في موضع الصفة ل {شفيع} لأن التقدير: ولا شفيع يطاع، وموضع {يطاع} يحتمل أن يكون خفضًا حملًا على اللفظ، ويحتمل أن يكون رفعًا عطفًا على الموضع قبل دخول {من}.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ.
وقوله: {يعلم خائنة الأعين} متصل بقوله: {سريع الحساب} [غافر: 17] لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكرة ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. وقالت فرقة: {يعلم} متصل بقوله: {لا يخفى على الله منهم شيء} [غافر: 16]، وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية وكثرة الحائل. والخائنة: مصدر كالخيانة، ويحتمل في الآية أن يكون {خائنة} اسم فاعل، كما تقول: ناظرة الأعين إذا خانت في نظرها.
وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات، فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى، أو يريد بها صاحبها معنى، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه عبد الله بن أبي سرح ليسلم بعد ردته بشفاعة عثمان، فتلكأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعه، ثم قال عليه السلام لأصحابه: «هلا قام إليه رجل حين تلكأت عليه فضرب عنقه؟» فقالو يا رسول الله: ألا أومأت إلينا؟ فقال عليه السلام: «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل: أنا مرصاد الهمم، أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون. وقال مجاهد: {خائنة الأعين} مسارقة النظر إلى ما لا يجوز: ثم قوى تعالى هذه الأخبار بأنه يعلم ما تخفي الصدور مما لم يظهر على عين ولا غيرها، ومثل المفسرون في هذه الآية بنظر رجل إلى امرأة هي حرمة لغيره، فقالوا {خائنة الأعين} هي النظرة الثانية.
{وما تخفي الصدور} أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن المرء دفعها، وهذا المثال جزء من {خائنة الأعين}.
ثم قدح في جهة الأصنام، فأعلم أنه لا رب غيره {يقضي بالحق} أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثل، وينصف المظلوم من الظالم إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل، والأصنام لا تقضي بشيء ولا تنفذ أمرًا. و: {يدعون} معناه: يعبدون.
وقرأ جمهور القراء: {يدعون} بالياء على ذكر الغائب. وقرأ نافع بخلاف عنه. وأبو جعفر وشيبة: {تدعون} بالتاء على معنى قل لهم يا محمد: والذين تدعون أنتم.
ثم ذكر تعالى لنفسه صفتين بين عرو الأوثان عنهما وهي في جهة الله تعالى عبارة عن الإدراك على إطلاقه. اهـ.