فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلامُ وأولُهم وجُودًا وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبيرِهم له وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جَلَّ جَلالُه ومكانتِهم عِنْدُه وَمحلُّ الموصولِ الرفعُ عَلى الابتداءِ خبرُه: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} والجملةُ اسئتنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهمُ السلامُ مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ تعالى عن كُلِّ ما لاَ يليقُ بشأنِه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ عَلى نعمائِه التي لاَ تتناهَى {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} إِيمانًا حقيقيًا بحالِهم، والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْسًا لإظهارِ فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم للمؤمنينَ حسبما ينطِقُ بهِ قولُه تَعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ، وفي نظمِ استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبيحهم وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ. رُوي أنَّ حملةَ العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السُّفلى ورؤوسُهم قدْ خرقتِ العرشَ وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله من الملائكةِ فإنَّ خلقًا من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ» وَفِي الحديثِ: «إِنَّ الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى حملةِ العرشِ تفضيلًا لهم عَلى سائِرهم» وقيل: خلقَ الله تعالى العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان الطيرِ المسرعِ ثمانينَ عامٍ وقيل: حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ صفّ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ {رَبَّنَا} عَلى إرادةِ القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بيانٌ لاستغفارِهم أوْ حالٌ.
{وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا} أيْ وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات هنها والفاءُ في قولِه تعالى: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} أي للذين عملتَ منهم التوبةَ واتباعَ سبيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} عطفٌ عَلى قِهِمْ وتوسيطُ النداءِ بينَهما للبمالغةِ في الجؤارِ {جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} أيْ وعَدَتهم إيَّاهَا وقُرئ جَنَّةَ عَدْنٍ {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} أيْ صلاحًا مصحَّحًا لدخولِ الجنةِ في الجملةِ وإنْ كانَ دونَ صلاحِ أصولِهم وهُوَ عطفٌ على الضميرِ الأولِ أيْ وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعفُ ابتهاجُهم أوْ عَلى الثانِي لكنْ لا بناءً عَلى الوعدِ العام للكلِّ كما قيل إذ لا يبقى حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاصِّ بهمْ بقولِه تعالَى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} بأنْ يكونُوا أعلى درجةً منْ ذريتِهم قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ: يدخلُ المؤمنُ الجنةَ فيقولُ أينَ أبي أينَ ولدي أينَ زَوْجي فيقالُ إِنَّهم لمْ يعملُوا مثلَ عملكَ فيقولُ إني كنتُ أعملُ لي ولهُم فيقالُ أَدخلوهم الجنةَ. وسبقُ الوعدِ بالإدخالِ والإلحاقِ لاَ يستدعي حصولَ الموعودِ بلا توسطِ شفاعةٍ واستغفارٍ وعليهِ مَبْنى قولِ منْ قالَ فائدةُ الاستغفارِ زيادةُ الكرامةِ والثوابِ والأولُ هو الأَولى لأنَّ الدعاءَ بالإدخالِ فيه صريحٌ وفي الثاني ضمنيٌّ وقُرئ صَلُح بالضَّمِ وذرّيتِهمُ بالإفرادِ {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي الغالبُ الذَّي لاَ يمتنعُ عليه مَقْدورٌ {الحكيم} أي الذي لا يفعلُ إلاَّ ما تقتضيهِ الحكمةُ الباهرةُ مَن الأمورِ التي منْ جُمْلتها إنجازُ الوعدِ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها.
{وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ أوْ مخصوصٌ بالأتْباعِ أو المعاصي في الدُّنيا فمعنى قولِه تعالى: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته فِي الآخرةِ كأنَّهم طلَبوا لهُمْ السببَ بعدَ مَا سألُوا المُسبَّبَ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحمةِ المفهومةِ من {رَحْمتَه} أوْ إليَها وإِلى الوقايةِ وَمَا فيه منْ مَعْنى البُعدِ لما مَرَّ مِرارًا منَ الإشعارِ ببُعْدِ درجةِ المُشارِ إليهِ {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لاَ مطمعَ وَرَاءَهُ لطامعٍ.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} شروعٌ في بيانِ أحوالِ الكفرة بعدَ دخولِهم النَّارَ بعدَ ما بينَ فيما سبقَ أنهُمْ أصحابُ النارِ {يُنَادَوْنَ} أيْ مِنْ مكانٍ بعيدٍ وهُمْ في النارِ وقَدْ مقتُوا أنفسَهُم الأمَّارةَ بالسُّوءِ التي وقعُوا فيمَا وقعُوا باتباعِ هَوَاهَا أوْ مقَتَ بعضُهم بعضًا من الأحبابِ كقولِه تَعَالَى: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أيْ أبغضوهَا أشدَّ البغضِ وَأنكروهَا أبلغَ الإنكارِ وَأظهرُوا ذلكَ على رؤوسِ الأشهادِ فيقالُ لهم عندَ ذلكَ {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أيْ لمقتُ الله أنفسَكُم الأمَّارةَ بالسوءِ أوُ مقتُه إِيَّاكم في الدُّنيا {إِذْ تَدْعُونَ} منْ جهةِ الأنبياءِ {إِلَى الإيمان} فتأبَوْنَ قَبولَهُ {فَتَكْفُرُونَ} اتّباعًا لأنفسكمْ الأمَّارةِ ومسارعةً إِلى هَوَاها أوِ اقتداءً بِأَخِلاَّئِكُم المضلينَ واستحبابًا لآرائِهم أكبرُ منْ مقتِكم أنفسَكُم الأمارةَ بالسوءِ أوْ مِنْ مقتِ بعضِكم بعضًا اليومَ فإذ ظرفٌ للمقتِ الأولِ وإنْ توسطَ بينَهما الخبرُ لما فِي الظروفِ من الاتساعِ وقيل: لمصدرٍ آخرَ مقدرٍ أيْ مقتُه إيَّاكم إذْ تدعونَ وقيلَ: مفعولٌ لأذكرُوا والأولُ هو الوجْه وقيلَ: كلا المقتينِ في الآخرةِ وإذْ تدعَونَ تعليلٌ لَما بينَ الظرفِ والسببِ منْ علاقةِ اللزومِ والمعنى لمقتُ الله إِيَّاكم الآنَ أكبرُ منْ مقتكم أنفسَكم لمَّا كنتمُ تُدعَونَ إِلى الإيمانِ فتكفرونَ، وتخصيصُ هَذَا الوجهِ بصورةِ كونِ المرادِ بأنفسِهم أضرابَهُم مما لاَ دَاعيَ إليهِ.
{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتانِ لمصدرَيْ الفعلينِ المذكورينِ أيْ إماتتينِ وإحياءتينِ أوْ موتتينِ وحياتينِ عَلى أنَّهما مصدرانِ لهما أيضًا بحذفِ الزوائدِ أو لفعلينِ يدلُّ عليهما المذكوران فإنَّ الإماتةَ والإحياءَ ينبئانِ عن الموتِ والحياةِ حَتْمًا كأنَّه قيلَ: أمتنَا فمُتنَا موتتينِ اثنتينِ وأحييتَنا فحِييَنا حياتينِ اثنتينِ على طريقةِ قولِ مَنْ قالَ:
وعضةُ دهرٍ يا ابْنَ مروانَ لمْ تَدَع ** منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ

أيْ لَم تدعَ فلمْ يبقَ إلا مسحتٌ إلخ قيلَ: أرادُوا بالإماتةِ الأُولى خلْقَهُم أمواتًا وبالثانيةِ إماتتَهُم عندَ انقضاءِ آجالِهم على أنَّ الإماتةَ جعلُ الشيءِ عادمَ الحياةِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ بإنشائِه كذلكَ كما في قولِهم سبحانَ منْ صغَّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أو بجعلهِ كذلكَ بعدَ الحياةِ وبالإحياءينِ الإحياءَ الأولَ وإحياءَ البعثِ وقيل: أرادُوا بالإماتةِ الأُولى ما بعدَ حياةِ الدُّنيا وبالثانيةِ ما بعدَ حياةِ القبرِ وبالإحياءينِ ما في القبرِ وما عند البعثِ وهو الأنسبُ بحالِهم، وأما حديثُ لزومِ الزيادةِ على النصِّ ضرورةَ تحققِ حياةِ الدُّنيا فمدفوعٌ لكنْ لا بما قيلَ من عدم اعتدادِهم بها لزوالِها وانقضائِها وانقطاعِ آثارِها وأحكامِها بل بأنَّ مقصودَهُم إحداثُ الاعترافِ بما كانوا يُنكِرونه في الدُّنيا كما ينطِقُ به قولُهم: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} والتزامُ العملِ بموجب ذلك الاعترافِ ليتوسلُوا بذلكَ إلى ما علقوا بهِ أطماعَهُم الفارغةَ من الرجْعِ إلى الدُّنيا كما قد صرَّحوا بهِ حيثُ قالوا: {فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ} وَهُو الذي أرادُوه بقولِهم {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} معَ نوعِ استبعادٍ لهُ واستشعارِ يأسٍ منْهُ لاَ أنَّهم قالوه بطريقِ القنوطِ البحتِ كما قيلِ: ولا ريبَ في أنَّ الذي كانَ يُنكرونَهُ ويُفرِّعون عليهِ فنونَ الكفرِ والمعاصِي ليسَ إلا الإحياءَ بعدَ الموتِ وأمَّا الإحياءُ الأولُ فلم يكونُوا يُنكرونَه لينظِمُوه في سلكِ ما اعترفُوا بهِ وزعمُوا أنَّ الاعترافَ يُجديهُم نفعًا وإنما ذكرُوا الموتَةَ الأُولى معَ كونِهم معترفينَ بَها في الدُّنيا لتوقف حياةِ القبرِ عليهَا وكَذا حالُ الموتةِ في القبرِ فإنَّ مقصدَهُم الأصليَّ هوَ الاعترافُ بالإحياءينِ وإنَّما ذكرُوا الإماتتينِ لترتيبهِما عليهِما ذكرًا حسبَ ترتبهِما عليهِما وجُودًا وتنكيرُ سبيلٍ للإبهامِ أيْ منْ سبيلٍ مَا كيفَما كانَ وقولُه تعالى: {ذلكم} إلخ جوابٌ لَهُم باستحالةِ حصولِ مَا يرجُونه ببيانِ ما يوجبُها مِن أعمالِهم السيئةِ أيْ ذلكم الذي أنتمُ فيهِ منَ العذابِ مُطلقاٍ لا مقيدًا بالخلودِ كَما قيلَ: {بِأَنَّهُ} أيْ بسببِ أنَّ الشأنَ {إِذَا دُعِىَ الله} فِي الدُّنيا أيْ عُبدَ {وَحْدَهُ} أيْ مُنْفَرِدًا {كَفَرْتُمْ} أيْ بتوحيدِهِ {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} أيْ بالإشراكِ به وتسارعوا فيه، وفي إيرادِ إذَا وصيغةِ الماضِي في الشرطيةِ الأُولى وإنْ وصيغةِ المضارعِ في الثانيةِ ما لا يَخْفى منَ الدلالةِ على كمالِ سوءِ حالِهم وحيثُ كان حالُكم كذلكَ {فالحكم للَّهِ} الذي لاَ يحكُم إلا بالحقِّ ولاَ يقضِي إلاَّ بَما تقتضيهِ الحكمةُ {العلى الكبير} الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ لا معقّبَ لحكمهِ وقد حكمَ بأنَّه لا مغفرةَ للمشركِ ولا نهايةَ لعقوبتِه كَما لا نهايةَ لشناعتِه فلا سيبلَ لكُم إلى الخروجِ أَبدًا.
{هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءاياته} الدالةَ عَلى شؤونِه العظيمةِ الموجبةِ لتفرده بالألوهيةِ لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبِهَا فتوحِّدوه تعالَى وتخُصُّوه بالعبادةِ {وَيُنَزّلُ} بالتشديدِ وقُرئ بالتخفيفِ منَ الإنزالِ {لَكُم مّنَ السماء رِزْقًا} أيْ سببَ رزقٍ وهو المطرُ وإفرادُه بالذكرِ مع كونِه من جملةِ الآياتِ الدالةِ على كمالِ قُدرتِهِ تَعَالى لتفردِّه بعنوانِ كونِه من آثارِ رحمتِه وجلائلِ نعمتِه الموجبةِ للشكرِ، وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على تجددِ الإراءةِ والتنزيلِ واستمرارِهِما، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ لما مَرَّ غيرَ مرةٍ {وَمَا يَتَذَكَّرُ} بتلكَ الآياتِ الباهرةِ ولا يَعملُ بمقتضَاهَا {إِلاَّ مَن يُنِيبُ} إلى الله تَعَالى ويتفكرُ فيما أودَعهُ في تضاعيفِ مصنوعاتِهِ من شواهدِ قدرتِه الكاملةِ ونعمتِه الشاملةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تَعالَى ومن ليسَ كذلكَ فهُو بمعزلٍ منَ التذكرِ والاتعاظِ {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أيْ إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكرَ منَ اختصاصِ التذكرِ بمنْ ينيبُ فاعبدُوه أيُّها المؤمنونَ مخلصينَ له دينَكُم بموجبَ إنابتِكم إليهِ تعالَى وإيمانِكم به {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلكَ وغاظَهُم إخلاصُكم.
{رَفِيعُ الدرجات} نحوُ بديعِ السمواتِ عَلى أنه صفةٌ مشبّهةٌ أضيفتْ إلى فاعِلها بعدَ النقلِ إلى فُعُلٍ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وتفسيرُه بالرافعِ ليكونَ منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى المفعولِ بعيدٌ في الاستعمالِ أيْ رفيعُ درجاتِ ملائكتِه أي معارجِهم ومصاعدِهم إلى العرشِ {ذُو العرش} أيْ مالكُه وهُمَا خبرانِ آخرانِ لقوله تعالى: {هوَ} أخبرَ عنْهُ بهما إيذانًا بعلوِّ شأنِه تَعَالى وعظمِ سُلطانِه الموجبَيْنِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ إمَّا بطريقِ الاستشهادِ بهمَا عليهَما فإنَّ ارتفاعَ معارجَ ملائكتِه إلى العرشِ وكونَ العرشِ العظيمِ المحيطِ بأكنافِ العالمِ العلويِّ والسفليِّ تحتَ ملكوتِه وقبضةِ قدرتِه مما يقضِي بكونِ علوِّ شأنِه وعظمِ سُلطانِه في غايةٍ لاغايةَ وراءَهَا وإمَّا بجعلَهما عبارةً عنهما بطريقِ المجازِ المتفرعِ على الكنايةِ كالاستواءِ على العرشِ وتمهيدًا لما يعقُبهما من قولِه تعالى: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ} فإنَّه خبرٌ آخرُ لمَا ذكرَ منبىءٌ عن إنزالِ الرزقِ الرُّوحانِيِّ الذي هُو الوحيُ بعدَ بيانِ إنزالِ الرزقِ الجُسمانيِّ الذي هُو المطرُ أي ينزلُ الوحيَ الجاريَ من القلوبِ منزلةَ الروحِ منَ الأجسادِ وقولُه تعالَى {مِنْ أمرِه} بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حالٌ منِهُ أيْ حالَ كونِه ناشئًا ومبتدًا منْ أمرِهِ أو صفةٌ لهُ عَلى رأْي منْ يجوزُ حذفَ الموصولِ معَ بعضِ صلتِه أي الروحَ الكائنَ منْ أمرهِ أو متعلقٌ بيُلقِي وَمنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قولِه تَعَالى: {مّمَّا خطيئاتهم} أي يُلقِي الوحيَ بسببِ أمرهِ {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهوَ الذي اصطفاهُ لرسالتِه وتبليغِ أحكامِه إليهمْ {لّيُنذِرَ} أي الله تعالَى أو الملقى عليه أو الروح، وقرئ لتنذر على أن الفاعل هو الرسول عليه الصلاة والسلام أو الرُّوحُ لأنَّها قد تؤنث {يَوْمَ التلاق} إما ظرفٌ للمفعولِ الثانِي أي لينذرَ الناسَ يوم العذابَ التلاقِ وهو يومُ القيامةِ لأنَّه يتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ السمواتِ والأرضِ أو هُو المفعولُ الثانِي اتساعًا أوْ أصالةً فإنَّه منْ شدةِ هولِه وفظاعتِه حقيقٌ بالإنذارِ أصالةً وقُرئ ليُنْذرَ عَلَى البناءِ للمفعولِ ورفعِ اليومِ.
{يَوْمَ هُم بارزون} بدلٌ منُ يومِ التلاقِ أيْ خارجونَ من قبورِهم أو ظاهرونَ لا يستُرهُم شيءٌ من جبلِ أو أَكَمةٍ أوْ بناءٍ لكونِ الأرضِ يومئذٍ قاعًا صفصفًا ولاَ عليهمُ ثيابٌ إنما هُم عراةٌ مكشوفونَ كما جاءَ فِي الحديثِ «يحشرونَ عُراةً حُفاه غُرْلا» وقيلَ: ظاهرةٌ نفوسُهم لا تحجبُهم غواشِي الأبدانِ. أوْ أعمالُهم وسرائرُهم {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء} استئنافٌ لبيانِ بروزِهم وتقريرٌ له وإزاحةٌ لَما يتوهمُّه المتوهمونَ في الدُّنيا منَ الاستتارِ توهمًا باطلًا أو خبرٌ ثانٍ وقيلَ: حَالٌ منْ ضميرِ بارزونَ أيْ لا يخْفى عليهِ تَعَالى شيءٌ مَا منْ أعيانِهم وأعمالِهم وأحوالِهم الجليلةِ والخفيةِ السابقةِ واللاحقةِ.
{لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} حكايةٌ لمَا يقعُ حينئذٍ منَ السؤال والجوابِ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على ما قبَلهُ من الجملةِ المنفيةِ المستأنفةَ أو مستأنفٌ يقعُ جوابًا عنْ سؤالٍ نشأَ منْ حكايةِ بروزِهم وظهورِ أحوالِهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حينئذٍ فقيلَ: يقالُ إلخ أيْ يُنادِي منادٍ لَمنِ الملكُ اليومَ فيجيبُهُ أهلُ المحشرِ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ المجيبُ هُوَ السائلُ بعينِه لما رُوي أنَّه يجمعُ الله الخلائقَ يومَ القيامةِ في صعيدٍ واحدٍ في أرضٍ بيضاءَ كأنَّها سبيكةُ فضةٍ لم يعصَ الله فيَها قطُّ فأولُ ما يتكلُم بهِ أنْ ينادِيَ منادٍ لمنِ الملكُ اليومَ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ حكايةً لما ينطقُ بهِ لسانُ الحالِ من تقطعِ أسبابِ التصرفاتِ المجازيةِ واختصاصِ جميعِ الأفاعيلِ بقبضةِ القدرةِ الإلهيةِ {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} إلخ إمَّا منْ تتمةِ الجوابِ لبيانِ حكمِ اختصاصِ الملكِ بهِ تعالَى ونتيجتِه التي هيَ الحكُم السويُّ والقضاءُ الحقُّ أوْ حكايةً لِمَا سيقولُه تعالى يومئذٍ عقيبَ السؤالِ والجوابِ أيْ تُجزى كُلُّ نفسٍ منَ النفوسِ البَرّةِ والفاجرةِ بما كسبتْ منْ خَيرٍ أوْ شرَ {لاَ ظُلْمَ اليوم} بنقصِ ثوابٍ أوْ زيادةِ عذابٍ {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أيْ سريعٌ حسابُه تمامًا إذْ لا يشغلُه تعالَى شأنٌ عنْ شأنٍ فيحاسبُ الخلائقَ قاطبةً في أقربِ زمانٍ كما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عَنْهما أنَّه تعالَى إذَا أخذَ في حسابِهم لم يقِلْ أهلُ الجنةِ إلاَّ فيهَا ولا أهلُ النارِ إلا فيهَا فيكونُ تعليلًا لقولِه تعالَى {اليومَ تُجزى} إلخ فإنَّ كونَ ذلكَ اليومِ بعينِه يومَ التلاقِي ويومَ البروزِ ممّا يوهم استبعادَ وقوعِ الكُلِّ فيهِ أو سريعٌ مَجيئًا فيكونُ تعليلًا للإنذارِ.
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} أي القيامةِ سميتْ بَها لأُزوفِهَا وهُو القربُ غيرَ أنَّ فيهِ إشعارًا بضيقِ الوقتِ وقيلَ الخطةُ الآزفةُ وهي مشارفةُ أهلِ النارِ دخولَها وقيل: وقتَ حضورِ الموتِ كما في قولِه تعالَى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} وقولِه: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى} وقولُه تعالَى: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} بدلٌ منْ يومَ الآزفةِ فإنَّها ترتفعُ من أماكِنها فتلتصقُ بحلوقِهم فلا تعودُ فيتروّحوا ولا تخرجُ فيستريحوا بالموتِ {كاظمين} عَلى الغَمِّ حالٌ منْ أصحابِ القلوبِ عَلى المَعْنى إِذِ الأصلُ قلوُبُهم أوْ مِنْ ضميرِهَا في الظرفِ وجمعُ السلامةِ باعبتارِ أنَّ الكظَم منْ أحوالِ العُقلاءِ كقولِه تعالَى: {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} أوْ منْ مفعولِ أنذرْهم عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ أيْ أنذرهُم مقدرًا كظمَهُم أوْ مشارفينَ الكظمَ.
{مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ} أَيْ قريبٍ مشفقٍ {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أيْ لاَ شفيعَ مُشفَّعٌ على مَعْنى نفِي الشفاعةِ والطاعةِ معًا على طريقةِ قوله:
على لاحبٍ لا يُهتدى بمنارِ

والضمائرُ إنْ عادتْ إلى الكُفارِ وهو الظاهرُ فوضعُ الظالمينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بالظلمِ وتعليلِ الحكمِ بهِ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين} النظرةَ الخائنةَ كالنظرةِ الثانيةِ إلى غيرِ المَحْرمِ واستراقِ النظرِ إليهِ أو خيانةَ الأعينِ على أنها مصدرٌ كالعافيةِ {وَمَا تُخْفِى الصدور} من الضمائرِ والأسرارِ والجملةُ خبرٌ آخرُ مثلُ يُلقي الروحَ للدِّلالةِ على أنَّه ما مِنْ خفيَ إلا وهُو متعلقُ العلمِ والجزاءِ.
{والله يَقْضِى بالحق} لأنَّه المالكُ الحاكُم على الإطلاقِ فلا يقضِي بشيءٍ إلا وهُو حقٌّ وعدلٌ {والذين يَدْعُونَ} يعبدونَهم {مِن دُونِهِ} تعالى: {لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء} تهكمٌ بهم لأنَّ الجمادَ لا يُقالُ في حقِّه يَقْضِي أو لا يَقْضِي. وقُرئ تَدْعُون عَلى الخطابِ التفاتًا أو على إضمارِ قُلْ {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} تقريرٌ لعلمِه تعالَى بخائنةِ الأعينِ وقضائِه بالحقِّ ووعيدٌ لهمُ على ما يقولونَ ويفعلو نَ وتعريضٌ بحالِ ما يدْعونَ من دونِه. اهـ.