فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} أي رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهمًا أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ، أي الواضحة، فأطلق {جاءهم} على ظهور الحق كقوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81].
و{مِن عِندِنا} وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده، وهو آيات نبوته التسعُ.
ووجه وقوع {فلَمَّا جَاءَهم بالحَقِّ مِن عِندنا} بعد قوله: {أرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنا} [غافر: 23] مع اتحاد مُفاد الجملتين فإن مفاد جملة {جاءهم} مساو لمفاد جملة {أرسلنا} ومفاد قوله: {بالحق} مساو لمفاد قوله: {بآياتنا وسُلطان مُبين} [غافر: 23] أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام أعظم ملوك الأرض يومئذٍ، وأما قوله: {فلمَّا جَاءَهُم بالحَقِّ} فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها، وتقدير الكلام: أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق، فسلكت في هذا النظم طريقة الإِطناب للتنويه والتشريف.
وجملة {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} معترضة.
وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يُرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصارًا ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين.
وضمير {جاءهم} يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين} [القصص: 38] الآية.
وليس عائدًا إلى فرعون وهامان وقارون، لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغا بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص.
والضمير في قولهم: {اقتلوا} مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل {ربّ ارجعون} [المؤمنون: 99].
وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه، ففعل قالوا بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة: قال قائل، لأن المقصود قوله بعده: {وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ}.
وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعًا فكذلك يكون كيدهم.
وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي وُلد موسى في زمنه.
وسمي هذا الرأي كيدًا لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة [الأعراف: 130]: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} الآية، ثم بقوله: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد} [الأعراف: 133] الآية.
والضلال: الضياع والاضمحلال كقوله: {قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لانقاذه سبيلًا.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} عطفُ {وقال} بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جوابًا لقولهم: {اقْتُلوا أبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25]، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا: {اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه} وأنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنتهم.
ومعنى: {ذروني} إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال المخاطبين بحال من يريد فعل شيء فيصدّ عنه، فلرغبته فيه يقول لمن يصده: دَعْنِي أفعل كذا، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما، قال طرفة:
فان كنتَ لا تستطيع دفع منيتي ** فدَعْنِي أبادرها بما ملكتْ يدي

ثم استعمل هذا في التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل: دَعْني وخَلِّني، كما في قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدًا} [المدثر: 11] وقوله: {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11]، وقول أبي القاسم السهيلي:
دَعْنِي على حكم الهوى أتضرع ** فَعَسَى يلين ليَ الحبيب ويخشع

وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يَمنع المستشارُ مستشيره من الإِقدام عليه، ولذلك عطف عليه: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدَّاهم بالآيات التسع.
ولام الأمر في {وَلْيَدعُ رَبَّهُ} مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث.
وجملة {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} تعليل للعزم على قتل موسى.
والخوف مستعمل في الإِشفاق، أي أظن ظنًا قويًا أن يبدل دينكم.
وحذفت مِن التي يتعدى بها فعل {أخاف} لأنها وقعت بينه وبين أنْ.
والتبديل: تعويض الشيء بغيره.
وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها.
والإِضافة في قوله: {دينكم} تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينَه أيضًا لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم {أتذر موسى وقومَه ليفسدوا في الأرض ويذَرَك وآلهتك} [الأعراف: 127] وذلك كله إلهاب وتحضيض.
والأرض: هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون.
ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد.
وأطلق الإِظهار على الفشوّ والانتشار على سبيل الاستعارة.
وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فسادًا إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإِلف والانتفاع العاجل.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر وأَنْ بواو العطف.
وقرأ غيرهم {أوْ أَنْ} بأو التي للترديد، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين.
وقرأ نافع وأبو عَمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء {يُظهر} ونصب {الفَسَاد} أي يبدل دينكم ويكون سببًا في ظهور الفساد.
وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع {الفسادُ} على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أَتْباع موسى، أو بأن يجترىء غيره على مثل دعواه بأن تزول حُرمة الدولة، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله.
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه: {ذروني أقتل موسى} [غافر: 26] ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه: {إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم} ولذلك حكِيَ فعل قوله معطوفًا بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة [الشعراء: 18 31] من قوله: {قال ألم نربك فينا وليدًا} إلى قوله: {قال فأْتِ به إن كنت من الصادقين}.
وقوله: {عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِر} خطاب لقومه من بني إسرائيل تطمينًا لهم وتسكينًا لإِشفاقهم عليه من بطش فرعون.
والمعنى: إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذَ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون.
ومعنى ذلك: أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند، وذلك ما حكي في سورة [طه: 45، 46]: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمَع وأرى} فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظٌ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لاحينَ كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 94، 95] الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته.
وتأكيد الخبر بحرف إنَّ متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جُلهم منزلة من يتردد في ذلك لِما رأى من إشفاقهم عليه.
والعَوذ: الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه مَن يروم ضره، يقال: عاذ بالجبل، وعاذ بالجيش، وقال تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافًا إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه.
وزيادة وصفه برب المخاطبين للإِيماء إلى أن عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم.
وجُعلت صفة {لاَ يُؤمِنُ بِيَوْممِ الحِسَابِ} مغنية عن صفة الكفر أو الإِشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال السبكي:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَوَاضِعُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا لَفْظُ التَّبْدِيلِ وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مَفْعُولٌ وَاحِدٌ أَوْ مَفْعُولَانِ وَمَا فِيهِ الْبَاءُ {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ} {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} {لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} {بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وَقَدْ تَأَمَّلْت هَذِهِ الْآيَاتِ فَوَجَدْتهَا عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا جَاءَ التَّبْدِيلُ فِيهِ مُتَعَدِّيًا إلَى وَاحِدٍ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ مَفْعُولٌ آخَرُ وَلَا مَجْرُورٌ، وَهُوَ قوله: {يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} و{أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} و{أَنْ أُبَدِّلَهُ} {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} وَفِي هَذِهِ الثَّلَاثِ الْمُبَدَّلُ هُوَ الْمَتْرُوكُ.
وَقوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَأْتِيُّ بِهِ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ تَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى طَرْحِ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِمَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا بَدَلَ مَا هُوَ حَاصِلٌ؛ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا جَعْلُهُ بَدَلًا وَهُوَ صَادِقٌ فِي النَّوْعَيْنِ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا زِيدَ عَلَيْهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ لِبَيَانِ مَا جُعِلَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ لَوْ جَعَلْت الْهَمْزَةَ بَدَلَ التَّضْعِيفِ فِي الْفِعْلِ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَعْنَى، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ صِحَّةُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَلَا تُبَدَّلُ الصَّادُ بِالطَّاءِ وَقَوْلُ النُّحَاةِ فَلَا تُبَدَّلُ الظَّاءُ بِالصَّادِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى سَوَاءٌ، لَكِنَّهُ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ لِتُعْرَفَ بِالْقَرِينَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْحَاصِلَ هُوَ الضَّادُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إلَى الطَّاءِ وَلَا جَعْلُ الطَّاءِ مَكَانَهَا فَالْفُقَهَاءُ أَرَادُوا مَعْنَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى وَالنُّحَاةُ أَرَادُوا مَعْنَى الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ تَوَارَدُوا عَلَيْهِ بِعِبَارَتَيْنِ وَمَقْصُودَيْنِ انْتَهَى. اهـ.

.تفسير الآيات (28- 29):

قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضى كلام الرأسين، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لابد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم، واجتهد في جمع مفترق علنهم وسرهم، قال تعالى مخبرًا عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك: {وقال رجل} أي كامل في رجوليته {مؤمن} أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام.
ولما كان للإنسان، إذا عم الطغيان، أن يسكن بين أهل العدوان، إذا نصح بحسب الإمكان، أفاد ذلك بقوله: {من آل فرعون} أي وجوههم ورؤسائهم {يكتم إيمانه} أي يخفيه إخفاء شديدًا خوفًا على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحدًا من جماعة مختلفة، مخيلًا لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان.
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزمًا قويًا أوقع عليه اسم القتل، فقال منكرًا له غاية الإنكار: {أتقتلون رجلًا} أي هو عظيم في الرجال حسًا ومعنى، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: {أن} أي لأجل أن {يقول} ولو على سبيل التكرير: {ربي} أي المربي لي والمحسن إليّ {الله} أي الجامع لصفات الكمال {وقد} أي والحال أنه قد {جاءكم بالبينات} أي الآيات الظاهرات من غير لبس {من ربكم} أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى اعترافكم له بها.
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره، فقال مشيرًا إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقًا أو كاذبًا، مقدمًا القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه: {وإن} أي والحال أنه إن.
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة: قتلهم خير الناس إذ ذاك، وإتيانهم بالعذاب، واطلاعهم على إيمانه، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن، حذف النون فقال: {يك كاذبًا فعليه} أي خاصة {كذبه} يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر، ولم يقل: أو صادقًا، وإن كان الحال مقتضيًا لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه، فيكون قد أخل ببعض الأدب، فقال مظهرًا لفعل الكون عادلًا عما له إلى ما عليهم معادلًا لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهارًا للنصفة ودفعًا للتهمة عن نفسه: {وإن يك} حذف نونه لمثل ما مضى {صادقًا يصبكم} أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئًا.