فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصِّدِّيقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصِّدِّيق وهو أفضلهم» وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك.
وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون؛ فلهذا لم يتعرض له بسوء.
وقيل: كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون؛ عن السّدي أيضًا.
ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير، والتقدير: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون.
فمن جعل الرجل قبطيًا ف مِن عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل؛ التقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون؛ أي من أهله وأقاربه.
ومن جعله إسرائيليا ف مِن متعلقة ب {يكتم} في موضع المفعول الثاني ل {يكتم}.
القشيري: ومن جعله إسرائيليًا ففيه بعد؛ لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه.
قال الله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] وأيضًا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
الثانية: قوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} أي لأن يقول ومن أجل {أَنْ يَقُول ربِّيَ اللَّهُ} فأَنْ في موضع نصب بنزع الخافض.
{وَقَدْ جَاءَكُمْ بالبينات} يعني الآيات التسع {مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكن تلطفًا في الاستكفاف واستنزالًا عن الأذى.
ولو كان وإِنْ يكن بالنون جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه؛ ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس.
{وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم.
ومذهب أبي عبيدة أن معنى {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} كل الذي يعدكم وأنشد قول لبيد:
تَرَّاكُ أمكِنَةٍ إذا لم أَرْضَهَا ** أو يَرْتَبْطِ بعْضَ النفوسِ حِمَامُها

فبعض بمعنى كلّ؛ لأن البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ.
وذكر الماوردي: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفًا في الخطاب وتوسعًا في الكلام؛ كما قال الشاعر:
قَدْ يُدْرِك المتأَنّي بعض حَاجتِهِ ** وقد يكون مَعَ المسْتَعجِلِ الزَّلَلُ

وقيل أيضًا: قال ذلك لأنه حذرهم أنواعًا من العذاب كل نوع منها مهلك؛ فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع.
وقيل: وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا؛ فالمعنى يصبكم أحد العذابين.
وقيل: أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضًا.
وقيل: وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا.
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} على نفسه {كَذَّابٌ} على ربه إشارة إلى موسى ويكون هذا من قول المؤمن.
وقيل: {مُسْرِفٌ} في عناده {كَذَّابٌ} في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قال القاضي أبو بكر بن العربي: ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنًا باعتقاده، وقد قال مالك: إن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته أنه يلزمه، كما يكون مؤمنًا بقلبه وكافرًا بقلبه.
فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك، لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه؛ بما لبابه أن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرًا وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنًا بحال حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله.
الرابعة: روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} لفظ البخاري.
خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} والله إنه لرسول الله؛ فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذٍ.
فقال عليّ: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون؛ إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل.
قلت: قول عليّ رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصدّيق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه؛ وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه.
في نوادر الأصول أيضًا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها: ما أشدّ شيءٍ رأيتِ المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودًا في المسجد، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم، فبيناهم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدَقهم، فقالوا: ألست تقول كذا في آلهتنا قال: {بلى} فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له: أدرك صاحبك فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام؛ إكرام إكرام.
قوله تعالى: {يا قوم لَكُمُ الملك اليوم} هذا من قول مؤمن آل فرعون، وفي قوله: {يَا قَوْمِ} دليل على أنه قبطي، ولذلك أضافهم إلى نفسه فقال: {يَا قَوْمِ} ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه {لَكُمُ الْمُلْكُ} فاشكروا الله على ذلك.
{ظَاهِرِينَ فِي الأرض} أي غالبين وهو نصب على الحال أي في حال ظهوركم.
والمراد بالأرض أرض مصر في قول السدي وغيره؛ كقوله: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 56] أي في أرض مصر.
{فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءَنَا} أي من عذاب الله تحذيرًا لهم من نقمه إن كان موسى صادقًا، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور حجته فقال: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى}.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} في تكذيب موسى والإيمان بي. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} قيل كان قبطيًا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليًا، وقيل: كان غريبًا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفًا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: {مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} على القولين متعلق بقوله تعالى: {يَكْتُمُ إيمانه} والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقف على مؤمن.
واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانًا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] وقال الشاعر:
كتمتك ليلًا بالجمومين ساهرا ** وهمين هما مستكنًا وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ** وورد هموم لن يجدن مصادرا

وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضًا قال في المصباح كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه.
نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعدما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب.
وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو {رَجُلٌ} بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز {أَن يَقُولَ رَبّىَ الله} أي لأن يقول ذلك {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات} الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام.
والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: {رَبّىَ الله} مع أنه قد جاءكم بالبينات {مّن رَّبّكُمْ} أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي {أَن يَقُولَ رَبّىَ الله إِلَىَّ مِنْ رَبُّكُمْ} نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل رب من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون {أَن يَقُولَ} على تقدير مضاف أي وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه أن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام.
ثم إن الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف في الاحتجاج فقال: {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبًا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالًا عندهم، وقيل: بعض بمعنى كل وأنشدوا لذلك قول عمرو القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وذهب الزجاج إلى أن {بَعْضُ} فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعن فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجىء بعض بمعنى كل قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ** دون الشيوخ ترى في بعضها خللًا

ولا يتعين فيه فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضًا وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} احتجاج آخر ذو وجهين.
أحدهما أنه لو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات.
وثانيهما إن كان كذلك خذ له الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم؛ وعرض لفرعون بأنه مسرف أب في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما.
{يا قوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين} غالبين عالين على بني إسرائيل {فِى الأرض} أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} من أخده وعذابه سبحانه {إِن جَاءنَا} أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإن أن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، فالفاء في فمن إلخ فصيحة والاستفهام إنكاري، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبًا لقلوبهم وإيذانًا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
{قَالَ فِرْعَوْنُ} بعدما سمع ذلك {مَا أُرِيكُمْ} أي ما أشير عليكم {إِلاَّ مَا أرى} إلا الذي أراده واستصوبه من قتله يعني لا استصوب إلا قتله وهذا الذي تقولونه غير صواب {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئًا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولولا استشعاره لم يستشر أحدًا، وعن معاذ بن جبل والحسن أنهما قرءا {الرشاد} بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد.
وقيل: هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر، وتعقب بأن فعالا لم يجىء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسآر ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه، وحكى عن الجوهري أن الأقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه، واما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرًا لا استعمالًا كما قالوا: ابقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس، قال ابن جنى: وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرًا لا استعمالًا فإن المعنى على ذلك، ثم قال: فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من رشد المفتتوح؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا رشد أرشد لأن الإرشاد من الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى، وقيل: أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور.
وقال بعض المحققين: إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت، وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر ارشاده ومن أين وجب ذلك؟ وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا: عواج لبياع العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ، وقيل: طيلسان من خز أو صوف، وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} [غافر: 38] فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي.
وأبو حاتم يفسر {سَبِيلَ الرشاد} على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى، وستعلم إن شاء الله تعالى أن معاذًا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عز وجل كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم. اهـ.