فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبّىَ الله} [غافر: 28] قوى الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال: {ءامَنَ يا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب} إلى آخره، وقالت فرقة: كلام ذلك المؤمن قد تم، والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام، واحتجت بقوة كلامه، وعلى الأول المعول أي قال ناصحًا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له بالسوء إن يحل بكم مثل ما حل الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة، والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب.
وأيًّا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه، والمعنى عليه ورجح الافراد بالخفة والاختصار، وقال الزجاج: المراد يوم حزب حزب بمعنى أن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل، وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو، وجاء هذا من نصب {مَثَلُ} الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة.
وقال ابن عطية: هو بدل من {مَثَلُ} [غافر: 30] الأول، والاحتياج إلى تقدير المضاف على حاله {والذين مِن بَعْدِهِمْ} كقوم لوط {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعِبَادِ} أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلمًا بل كان عدلًا وقسطًا لأنه عز وجل أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك اهلاكهم، وهذا أبلغ من قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] من حيث جعل المنفى فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدًا كان عن الظلم نفسه أبعد، وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلمًا ما لعباده، وجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [الزمر: 7] أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عز وجل دمرهم لأنهم كانوا ظالمين، ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظًا ومعنى، ثم لا حجة فيه للمعتزلة لثبوت الفرق بين أراده منه وأراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلمو لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا احتياج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضًا.
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)} خفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادي القوم أي نادي بعضهم بعضًا، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19] والكافر {لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كتابيه} [الحاقة: 25].
وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضًا، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.
وقرأت فرقة {التناد} بسكون الدال في الوصل إجراء له مجرى الوقف.
وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبى والزعفراني وابن مقسم {التناد} بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} [عيسى: 34] الآية، وفي الحديث «إن للناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربًا».
وقيل: المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي.
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدل من {يوم التناد} [غافر: 32] أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل: فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفًا فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطًا بقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدى، وقال قتادة: أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول ليوم تولون مديرين وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير {تُوَلُّونَ}.
{وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى طريق النجاه أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)} لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله: {مَا أريكم إلاَّ مَا أرى} [غافر: 29] إلخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البَيْن واسترسل يكمل مقالته عُطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، ولئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم.
وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم.
وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه وإلى المخوف عليه بحرف على قال لبيد يرثي أخاه أربد:
أخشَى على أرْبَدَ الحُتوفَ ولا ** أخشَى عليه الرياحَ والمطرا

و{يَوْمِ الأحْزَابِ} مراد به، الجنس لا يومٌ معين بقرينة إضافته إلى جمعٍ أزمانُهم متباعدة.
فالتقدير: مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإِيجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل:
كلُوا في بعض بَطْنِكم تَعِفُّوا ** فإن زَمانكم زمنٌ خميص

والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب.
والأحزاب الأمم لأن كل أمة حِزبٌ تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزبًا، وتقدم عند قوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} في سورة [المؤمنين: 53].
والدأْب: العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالى: {كدأب آل فرعون} في أول [آل عمران: 11].
وانتصب {مِثْلَ دَأْببِ قَوْممِ نُوحٍ} على عطف البيان من {مِثلَ يَوْممِ الأحزابِ} ولما كان بيانًا له كان ما يضافان إليه متحدًا لا محالة فصار الأحزاب والدأب في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير: مثلَ يوممِ جزاء الأحزاب.
مثلَ يوممِ جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم.
ودأبُهم الذي اشتركوا فيه هو الاشراك بالله.
وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهورًا، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيمًا لا يخفى على مجاوريهم.
وجملة {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًَا لِلْعِبَادِ} معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاءً عادلًا من الله وهو جزاء الإشراك.
والظلم يطلق على الشرك {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله: {وما الله يريد ظلمًا للعباد} نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المُشترك في معنييه.
وكذلك فعل {يريد} يطلق بمعنى المشيئة كقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] ويطلق بمعنى المحبة كقوله: {ما أريد منهم من رزق} [الذاريات: 57]، فلما وقع فعل الإِرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإِرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يَظلِم عبادَه.
وأول المعنيين في الإِرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإِنذار، والمعنى الثاني تابع للأَول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عَدْل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلممِ أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإِقامة العدل.
وتقديم اسم {اللَّهُ} على الخبر الفعلي لإِفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، وإذ كان المسند واقعًا في سياق النفي كان المعنى: قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصرَ قلب، أي الله لا يريد ظلمًا للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأيمتُه إذ يدعونهم إليه ويَزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى: {وإذ فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28].
هذا على المعنى الأول للظلم، وأما على المعنى الثاني فالمعنى: ما الله يريد أن يَظلم عبادَه ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أيمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44] وبظلمهم دعاتهم وأيمتهم كما قال تعالى: {وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101]، فلم يَخْرُج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله.
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)} أعقب تخويفَهم بعقاب الدنيا الذي حلّ مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذينَ مِن بعدهم بأنْ خَوَّفهم وأنذَرَهم عذاب الآخرة عاطفًا جملته على جملة عذاب الدنيا.
وأَقْحَم بين حرف العطف والمعطوففِ نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفًا.
و{يَوْمَ التَّنَادِي} هو يوم الحساب والحشر، سمي {يَوْمَ التَّنَادي} لأن الخلق يتنادون يومئذٍ: فَمِن مستشفع ومن متضرع ومن مسلِّم ومهنِّىءٍ ومن موبّخ ومن معتذر ومن آمر ومن معلن بالطاعة قال تعالى: {يوم يناديهم} [فصلت: 47]، {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44]، {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44]، {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50]، {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71]، {دعوا هنالك ثبورا} [الفرقان: 13]، {يوم يدعُ الداعِ إلى شيء نكر} [القمر: 6] ونحو ذلك.
ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوممِ في هذا المقام ليُذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب {يا قوم} ناصحًا ومريدًا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة، وتأهيلَهم لكل نداء سارّ فيه.
وقرأ الجمهور {يَوْمَ التَّنَادِ} بدون ياء في الوصل والوقففِ وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنوّن لقصد الرعاية على الفواصل، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع: زَوجي رفيعُ العِماد، طويل النِجَاد، كثيرُ الرماد، قريبُ البيت من الناد فحذفت الياء من كلمة الناد وهي معرِفة.
وقرأ ابن كثير {يوم التنادي بإثبات الياء على الأصل اعتبارًا بأن الفاصلة هي قوله فَمَا لَهُ مِن هَادٍ}.
و{يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من {يَوْمَ التَّنَادِ} والتولي: الرجوع، والإِدبارُ: أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَربًا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه.
و{مدبرين} حال مؤكدة لعاملها وهو {تولون}.
وجملة {مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ} في موضع الحال.
والمعنى: حالةَ لا ينفعكم التولِّي.
والعاصم: المانع والحافظ.
و{مِنَ الله} متعلق ب {عاصم} و{من} المتعلقة به للابتداء، تقول: عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم.
وضَمن فعل عَصم معنى: أنقذَ وانتزعَ، ومعنى: {مِنَ الله} من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات.
و{من} الداخلة على {عاصم} مزيدة لتأكيد النفي.
وَأغنى الكلام على تعدية فعل: {أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَوممِ الأحْزَابِ} [غافر: 30] عن إعادته هنا.
وجملة {وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} عطف على جملة {إنِّي أخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ} لتضمنها معنى: إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي.
وفي الكلام إيجاز بحذف جُمل تدل عليها الجملة المعطوفة.
والتقدير: هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد، وفي هذه الجملة معنى التذييل.
ومعنى إسناد الإِضلال والإِغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقًا غير قابل لمعاني الحق والصواب، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح.
وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم، وآثر لهم هذا دون أن يقول: {ومن يهد الله فما له من مضل} [الزمر: 37] لأنه أحسّ منهم الإِعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته. اهـ.