فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] ذكر لهذا مثلًا، وهو أن يوسف لما جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على الشك والشبهة، ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على أن من أضله الله فما له من هاد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قيل إن يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام، ونقل صاحب الكشاف أنه يوسف بن أفراييم بن يوسف ابن يعقوب أقام فيهم نيفًا وعشرين سنة، وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حيًا إلى زمانه وقيل فرعون آخر، والمقصود من الكل شيء واحد وهو أن يوسف جاء قومه بالبينات، وفي المراد بها قولان الأول: أن المراد بالبينات قوله: {أأرباب مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39]، والثاني: المراد بها المعجزات، وهذا أولى، ثم إنهم بقوا في نبوته شاكين مرتابين، ولم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات، فلما مات قالوا إنه {لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولًا} وإنما حكموا بهذا الحكم على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، بل إنما ذكروا ذلك ليكون ذلك أساسًا لهم في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعد ذلك وليس في قولهم {لن يبعث الله من بعد رسولًا} لأجل تصديق رسالة يوسف وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالة من هو بعده مضمومًا إلى تكذيب رسالته، ثم قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه، قال الكعبي هذه الآية حجة لأهل القدر لأنه تعالى بين كفرهم، ثم بين أنه تعالى إنما أضلهم لكونهم مسرفين مرتابين، فثبت أن العبد ما لم يضل عن الدين، فإن الله تعالى لا يضله.
ثم بيّن تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال: {الذين يجادلون في ءايات الله بِغَيْرِ سلطان} أي بغير حجة، بل إما بناء على التقليد المجرد، وإما بناء على شبهات خسيسة {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله} والمقت هو أن يبلغ المرء في القوم مبلغًا عظيمًا فيمقته الله ويبغضه ويظهر خزيه وتعسه.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في ذمة لهم بأنهم يجادلون بغير سلطان دلالة على أن الجدال بالحجة حسن وحق وفيه إبطال للتقليد.
المسألة الثانية:
قال القاضي مقت الله إياهم يدل على أن فعلهم ليس بخلق الله لأن كونه فاعلًا للفعل وماقتًا له محال.
المسألة الثالثة:
الآية تدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد يمقت بعض عباده إلا أن ذلك صفة واجبة التأويل في حق الله كالغضب والحياء والتعجب، والله أعلم.
ثم بيّن أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك قد حصل عند الذين آمنوا.
ثم قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن عامر وأبو عمرون وقتيبة عن الكسائي {قَلْبٌ} منونًا {مُتَكَبّرٍ} صفة للقلب والباقون بغير تنوين على إضافة القلب إلى المتكبر قال أبو عبيد الاختيار الإضافة لوجوه الأول: أن عبد الله قرأ {على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ} وهو شاهد لهذه القراءة الثاني: أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما، وأما الذين قرأوا بالتنوين فقالوا إن الكبر قد أضيف إلى القلب في قوله: {إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} [غافر: 56] وقال تعالى: {فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] وأيضًا فيمكن أن يكون ذلك على حذف المضاف أي على كل ذي قلب متكبر، وأيضًا قال قوم الإنسان الحقيقي هو القلب وهذا البحث طويل وقد ذكرناه في تفسير قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] قالوا ومن أضاف، فلابد له من تقدير حذف، والتقدير يطبع الله على قلب كل متكبر.
المسألة الثانية:
الكلام في الطبع والرين والقسوة والغشاوة قد سبق في هذا الكتاب بالاستقصاء، وأصحابنا يقولون قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} يدل على أن الكل من الله والمعتزلة يقولون إن قوله: {وكذلك يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} يدل على أن هذا الطبع إنما حصل من الله لأنه كان في نفسه متكبرًا جبارًا وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من هذين الفريقين من وجه، وعليه من وجه آخر، والقول الذي يخرج عليه الوجهان ما ذهبنا إليه وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب، فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعون إلى الطاعة والانقياد لأمر الله، فيكون القول بالقضاء والقدر حيًا ويكون تعليل الصد عن الدين بكونه متجبرًا متكبرًا باقيًا، فثبت أن هذا المذهب الذي اخترناه في القضاء والقدر هو الذي ينطبق لفظ القرآن من أوله إلى آخره عليه.
المسألة الثالثة:
لا بد من بيان الفرق بين المتكبر والجبار، قال مقاتل {مُتَكَبّرٍ} عن قبول التوحيد {جَبَّارٍ} في غير حق، وأقول كمال السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل التكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله، والله أعلم.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)} اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبرًا جبارًا بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
احتج الجمع الكثير من المشبة بهذه الآية في إثبات أن الله في السموات وقرروا ذلك من وجوه الأول: أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله، وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك، فهو أيضًا يذكره كما سمعه، فلولا أنه سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء، الوجه الثاني: أنه قال وإني لأظنه كاذبًا، ولم يبين أنه كاذب فيماذا، والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه فكأن التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء، ثم قال: {وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا} أي وإني لأظن موسى كاذبًا في إدعائه أن الإله موجود في السماء، وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء الوجه الثالث: العلم بأنه لو وجد إله لكان موجودًا في السماء علم بديهي متقرر في كل العقول ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا وجوههم وأيديهم إلى السماء، وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء، وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل.
فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية، والجواب: أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم، وأما موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] وقال في سورة الشعراء {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 26، 28] فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين موسى، فمن قال بالأول كان على دين فرعون، ومن قال بالثاني كان على دين موسى، ثم نقول لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من موسى عليه السلام، بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجودًا لكان حاصلًا في السماء، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام.
وأما قوله: {وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا} فنقول لعله لما سمع موسى عليه السلام قال: {رَبّ السموات والأرض} ظن أنه عنى به أنه رب السموات، كما يقال للواحد منا إنه رب الدار بمعنى كونه ساكنًا فيه، فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه، وهذا ليس بمستبعد، فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه، فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقًا بهم، لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه.
وأما قوله إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجودًا لكان في السماء، قلنا نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لاسيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط.
المسألة الثانية:
اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا؟ أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح، والذي عندي أنه بعيد والدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو إما أن يقال إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء، فإن قلنا إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه، لأن العقل شرط في التكليف، ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن، وأما إن قلنا إنه كان من العقلاء فنقول إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي، ويعلم أيضًا ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال، وإذا كان هذا العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء، وإذا كان فساد هذا معلومًا بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون، والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنا لا نرى شيئًا نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله، أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجودًا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه، ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السموات {قَالَ ياهامان ابن لِى صَرْحًا لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب} والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحس ممتنعًا، ونظيره قوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء فتأتيهم بآية} [الأنعام: 35] وليس المراد منه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم طلب نفقًا في الأرض أو وضع سلمًا إلى السماء، بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيل لك إلى تحصيل ذلك المقصود، فكذا هاهنا غرض فرعون من قوله: {ياهامان ابن لِى صَرْحًا} يعني أن الاطلاع على إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعًا، فحينئذٍ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى فنقول هذا ما حصلته في هذا الباب.
واعلم أن هذه الشبهة فاسدة لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب، وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين رَّبُّ المشرق والمغرب} [الشعراء: 26، 28] إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل، وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه، فهذا ما عندي في هذا الباب وبالله التوفيق والعصمة.
المسألة الثالثة:
ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل، واحتجوا بقوله تعالى: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات} ومعلوم أنها ليست أسبابًا إلا لحوادث هذا العالم قالوا ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص {فَلْيَرْتَقُواْ في الأسباب} [ص: 10] أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات} أن المراد بأسباب السموات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه.
المسألة الرابعة:
قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجودًا ألبتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر، فالقول بأن هامان كان موجودًا في زمان فرعون خطأ في التاريخ، وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الاسم في زمانه، قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجودًا في زمان فرعون ما كان شخصًا خسيسًا في حضرة فرعون بل كان كالوزير له، ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجودًا لعرف حاله، وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجودًا في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أن غلط وقع في التواريخ، قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم فلو أن قائلًا ادعى أن أبا حنيفة كان موجودًا في زمان محمد عليه السلام وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو يسمى بأبي حنيفة، فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا هاهنا والجواب: أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين، فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية، وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية.
قيل الصرح البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذ ظهر و{أسباب السموات} طرقها، فإن قيل ما فائدة هذا التكرير.
ولو قيل: لعلي أبلغ الأسباب السموات، كان كافيًا؟ أجاب صاحب الكشاف عنه فقال: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها، وقوله: {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} قرأ حفص عن عاصم {فَأَطَّلِعَ} بفتح العين والباقون بالرفع، قال المبرد: من رفع فقد عطفه على قوله: {أبلغ} والتقدير لعلي أبلغ الأسباب ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخيًا من الفاء، ومن نصب جعله جوابًا، والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف، لأن الأول: لعلي أطلع والثاني: لعلي أبلغ وأنا ضامر أني متى بلغت فلابد وأن أطلع.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها {كاذبا وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وَصُدَّ} بضم الصاد، قال أبو عبيدة: وبه يقرأ، لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله، والباقون {وَصُدَّ} بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان، قالوا ومن صده قوله: {لأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الأعراف: 124] ويؤيد هذه القراءة قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النساء: 167] وقوله: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25].
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {زُيّنَ} لابد له من المزين، فقالت المعتزلة: إنه الشيطان، فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان، فالمزين للشيطان إن كان شيطانًا آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال، ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود، وأيضًا فقوله: {زُيّنَ} يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفًا بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه، إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صوابًا فهو العلم، وإن كان خطأ فهو الجهل، ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه، ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلًا، ومتى عرف كونه جهلًا امتنع بقاؤه جاهلًا، فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان، لأن البحث الأول بعينه عائد فيه، فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى، والله أعلم.
ويقوي ما قلناه أن صاحب الكشاف نقل أنه قرئ {وَزينَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ، ويدل عليه قوله: {إلى إله موسى}.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَبَابٍ} والتباب الهلاك والخسران، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1]، والله أعلم. اهـ.