فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد. هذا قول الطبري، وهو ظاهر رصف الآية، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص، والله أعلم بصحة ذلك، ولا تعارض بين هذه القصص، إلاَّ أن عين أن {الذين خرجوا من ديارهم} هم من ذكر في القصة لا غير، وإلاَّ فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال، إذ لا يمتنع أن يفر ناسٌ من الجهاد، وناس من الطاعون، وناس من الحمى، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك، ويعتبر من يأتي بعدهم، وليعلموا جميعًا أن الإماتة والإحياء بيد الله، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} ففيه قولان:
الأول: أن المراد منه بيان العدد، واختلفوا في مبلغ عددهم، قال الواحدي رحمه الله: ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفًا، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.
والقول الثاني: أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد، وجلوس وجالس، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب، قال القاضي: الوجه الأول أولى، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتبارًا عظيمًا، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف.
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفًا لحياته، محبًا لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} [البقرة: 96] ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها، أماتهم الله تعالى وأهلكهم، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} قال الجمهور:
هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفًا. ابن عباس: أربعين ألفًا. أبو مالك: ثلاثين ألفًا. السدّي: سبعة وثلاثين ألفًا. وقيل: سبعين ألفًا؛ قاله عطاء ابن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضًا أربعين ألفًا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جُريج. وعنه أيضًا ثمانية آلاف، وعنه أيضًا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها أُلوف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهم ألوف} في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية.
وهي جملة حالية، وألوف جمع ألف جمع كثرة، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف، فقيل: ستمائة ألف. وقال عطاء: تسعون، وقيل: ثمانون، وقال عطاء أيضًا سبعون وقال ابن عباس: أربعون. وقال أيضًا: بضع وثلاثون. وقال أبو مالك: ثلاثون، يعنون ألفًا.
وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل، فقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال الكلبي ومقاتل: ثمانية، وقال أبو صالح: سبعة، وقال ابن عباس، وابن جبير: أربعة وقال عطاء الخراساني: ثلاثة آلاف.
وقال البغوى: الأَوْلى قول من قال: إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن ألوفًا جمع الكثير، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف. انتهى. وهذا ليس كما ذكر، فقد يستعار أحد الجمعين للآخر، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه.
وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها، ولفظ القرآن: {وهم ألوف} لم ينص على عدد معين، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف، بل يكون ذلك المراد منه التكثير، كأنه قيل: خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون، لا يكادون يحصيهم عادٌّ، فعبر عن هذا المعنى بقوله: وهم ألوف، كما يصح أن تقول: جئتك ألف مرة، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مرارًا كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ونظير ذلك قول الشاعر:
هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط ** بني أسد حزنًا من الأرض أوعرا

ولعل من كان معه لم يكن ألوفًا، فضلًا عن أن يكونوا آلافًا، ولكنه أراد بذلك التكثير، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه، والجمهور على أن قوله: وهم ألوف، جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات، وقال ابن زيد: ألوف جمع آلف. كقاعد وقعود. أي: خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم، بل ائتلفوا، فخالفت هذه الفرقة، فخرجت فرارًا من الموت وابتغاء الحياة، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. وقال الزمخشري: وهذا من بدع التفاسير، وهو كما قال. وقال القاضي: كونه جمع ألف من العدد أولى، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {حَذَرَ الموت} فهو منصوب لأنه مفعول له، أي لحذر الموت، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت، فلما خص هذا الموضع بالذكر، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة. اهـ.

.قال ابن العربي:

الْأَصَحُّ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ: أَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مَخُوفٍ وَاجِبٌ.
الثَّانِي: إنَّمَا نَهَى عَنْ دُخُولِهِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَرْبِ وَالْخَوْفِ، بِمَا يُرَى مِنْ عُمُومِ الْآلَامِ وَشُمُولِ الْأَسْقَامِ.
الثَّالِثُ: مَا يُخَافُ مِنْ السَّخَطِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِهِ، وَذَهَابِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ الْقَضَاءِ.
الرَّابِعُ: مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمَا نَزَلَ بِي مَكْرُوهٌ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمَرْضَى مُهْمَلِينَ مَعَ مَا يَنْتَظِمُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} ففي تفسير {قَالَ الله} وجهان:
الأول: أنه جار مجرى قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله: {ثُمَّ أحياهم} فإذا صح الإحياء بالقول، فكذا القول في الإماتة.
والقول الثاني: أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم: موتوا، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي، ويحتمل أيضًا ما رويناه من أن الملك قال ذلك، والقول الأول أقرب إلى التحقيق. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله تعالى: {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} القَولُ فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس، استعيرت حالة تلقي المكوَّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر، فأطلق على الحالة المشبهة المركبُ الدال على الحالة المشبَّه بها على طريقة التمثيل، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتًا مستمرًا، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشْبِهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازًا عن الإنذار بالموت، والموتُ حقيقة، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت، ثم فرج الله عنهم فأحياهم.
وإما أن يكون كلامًا حقيقيًا بوحي الله، لبعض الأنبياء، والموتُ موت مجازي، وهو أمر للتحقير شتمًا لهم، ورَماهم بالذل والصغار، ثم أحياهم، وثبتَ فيهم روح الشجاعة.
والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت، فهؤلاء الذين ضُرب بهم هذا المثلُ خرجوا من ديارهم خائفين من الموت، فلم يغن خوفهم عنهم شيئًا، وأراهم الله الموت ثم أحياهم، ليصير خُلُق الشجاعة لهم حاصلًا بإدراك الحس.
ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئًا، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله، كما قال تعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} [الأحزاب: 16]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فقال لهم الله موتوا} ظاهره أن ثَمّ قولًا لله، فقيل: قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله، وقيل: على لسان الملك. وحكي: أن ملكين صاحا بهم: موتوا، فماتوا. وقيل: سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم، وقيل: لا قول هناك، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدةٍ وموتهم كموتة رجل واحد، والمعنى: فأماتهم، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء، المسرع الامتثال من غير توقف، ولا امتناع، كقوله تعالى: {كن فيكون}.
وفي الكلام حذف، التقدير: فماتوا، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد، فقيل: ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد، بدعاء حزقيل؛ وقيل: سبعة أيام، وقد تقدّم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام، وهذا الموت ليس بموت الآجال، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر، كحال {الذي مر على قرية} المذكورة بعد هذا.
{ثم أحياهم} العطف بثم يدل على تراخي الإحياء عن الإماتة، قال قتادة: أحياهم ليستوفوا آجالهم.
وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة، وقال مقاتل: كانوا قوم حزقيل، فخرج فوجدهم موتى، فأوحى الله إليه: إني جعلت حياتهم إليك، فقال لهم: احيوا. وقال ابن عباس: النبي شمعون، وريح الموتى توجد في أولادهم. وقيل: النبي يوشع بن نون، وقال وهب: اسمه شمويل وهو ذو الكفل، وقال مجاهد: لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوبًا إلاَّ عاد كفنًا دسمًا، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم، وقيل: معنى إماتتهم تذليلهم تذليلًا يجري مجرى الموت، فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئًا، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، وقيل: عنى بالموت: الجهل، وبالحياة: العلم، كما يحيا الجسد بالروح.
وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعًا للمؤمنين، وحثًا على الجهاد والتعريض للشهادة، وإعلامًا أن لا مفر مما قضى الله تعالى: {قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا} واحتجاجًا على اليهود، والنصارى بإنبائه صلى الله عليه وسلم بما لا يدفعون صحته، مع كونه أمّيًا لم يقرأ كتابًا، ولم يدارس أحدًا، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم. اهـ.