فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحصول الحجة هو اعتقادها ولَوْحُها في العقل، أي يجادلون جدلًا ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات.
وجملة {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله} خبر إنَّ من باب الإِخبار بالإِنشاء، وهي إنشاء ذمِّ جدالِهم المقصود منه كَمُّ فم الحق، أي كبر جدالهم مَقْتًا عند الله، ففاعل كبر ضمير الجدال المأخوذ من {يجادلون} على طريقة قوله: {إعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
و{مقتًا} تمييز للكُبْر وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل، والتقدير: كبر مَقْتُ جدالهم.
وفعل {كبر} هنا ملحق بأفعال الذم مثل: ساء، لأن وزن فَعْل بضم العين يجيء بمعنى: نِعْم وبِئس، ولو كانت ضمة عينه أصلية وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإِضلال المكين، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح.
والكِبَر: مستعار للشدة، أي مُقِت جدالُهم مَقْتًا شديدًا.
والمقت: شدة البغض، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله.
وكونه مَقتًا عند الله تشنيع لهم وتفظيع.
أما عطف {وَعِندَ الذِينَ ءامَنُوا} فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عَرج على فائدة عطف {وعند الذين آمنوا} ما عدا المَهائمي في تبصرة الرحمان إذ قال: {كَبُرَ مقْتًَا عِندَ الله} وهو موجب للإِضلال، ويدل على أنه كبر مقتًا أنه عند الذين آمنوا، وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهورُ الحق. اهـ.
وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتًا عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبَر فزيد الخبر تأييدًا بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قِلتهم يومئذٍ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين.
وعندي: أن أظهرَ من هذا أنّ الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يُرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبأون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إيّاهم، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل، كما قال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة: 71] مع الإِشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] وقوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] وقوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [الأنفال: 62] ونحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال: «آمنت بذلك وأبُو بكر» ولم يكن أبو بكر في المجلس.
وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإِعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص: 55]، وقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان: 63] وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} [الفرقان: 72].
والقول في {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} كالقول في {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب}.
والطبع: الختم، وتقدم في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} في سورة [البقرة: 7].
والختم والطبع والأَكِنَّة: خَلْق الضلالة في القلب، أي النفس.
والمتكبر: ذو الكبْر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف.
والجبّار: مثال مبالغة من الجبر، وهو الإكراه، فالجبار: الذي يُكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه.
وقرأ الجمهور: {على كل قلب متكبر} بإضافة {قلب} إلى {متكبر} وقرأ أبو عمرو وحْده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بتنوين {قلبٍ على أن يكون متكبر} و{جبار} صفتين ل {قلب} ووصفُ القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي.
والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] لأنه سبب الإِثم كما يقال: رأتْ عيني وسمعتْ أُذْني.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)} هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفًا، وكما أشرنا إليه في سورة القصص، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها، وتقدم ذكر هامان والصرح هنالك.
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [طه: 48] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلًا لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل.
وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلًا لدهماء أمته، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى: {فخرج على قومه من المحراب} [مريم: 11] وقوله: {كلما دخل عليها زكريا المحراب} [آل عمران: 37] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم.
والأسباب: جمع سبب، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد، فيطلق السبب على الطريق، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل.
والمراد هنا: طرق السماوات، كما في قول زهير:
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم

وانتصب {أسباب السماوات} على البدل المطابق لقوله: {الأسباب} وجيء بهذا الأسلوب من الاجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيمًا لشأنها وشأننِ عمله لأنه أمرٌ عجيب ليورَدَ على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس هامان.
والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع، والطلوع: الظهور.
والأكثر أن يكون ظهورًا من ارتفاع، ويعرف ذلك أو عدمُه بتعدية الفعل فإن عُدي بحرف على فهو الظهور من ارتفاع، وإن عُدي بحرف إلى فهو ظهور مطلق.
وقرأ الجمهور: {فأَطَّلِعُ} بالرفع تفريعًا على {أبلغ} كأنه قيل: أبلغُ ثم اطَّلِعُ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور، والبصريون ينكرونه كأنه قيل: متى بلغتُ اطلعتُ، وقد تكون له هاهنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بُعْد ما ترجاه، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة.
وبيْن {إلى} و{إله} الجناسُ الناقص بحرفٍ كما ورد مرتين في قول أبي تمام:
يمُدُّون من أَيْد عَواصصٍ عَوَاصِمٍ ** تَصُول بأسياف قَوَاضضٍ قَواضَبِ

وجملة {وَإنِّي لأظُنُّه كاذبا} معترضة للاحتراس من أن يظن هامان وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينَه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس.
وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه.
والمعنى: إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى.
والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيدًا في قوله: {ومَا كَيْدُ فِرْعَونَ إلاَّ في تَبَابٍ}.
{كاذبا وكذلك زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى} جملة {وكذلك زُيِنَ لفرعون} عطف على جملة {وَقَال فِرْعَوْنُ} لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله، والمعنى: أنه قال قولًا منبعثًا عن ضلال اعتقاد ومُغريًا بفساد الأعمال.
ولهذا الاعتبار اعتبارِ جميع أحوال فرعون لم تُفْصَل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى، وهذا مما سموه بالتوسط بين كَمَالَي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني.
وافتتاحها ب {كذلك} كافتتاح قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} في سورة البقرة (143)، أي مثل ذلك التزيين أي تزيين عمل فرعون زُيّن له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شِبْه يُشبَّه به فمن أراد تشبيهه فليشبّهه بعيْنه.
وبُني فعل {وكذلك} إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فَاعله، أي حَصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسِب الباطل حقًّا والضلال اهتداء.
وقرأ الجمهور: {وَصَدَّ} بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصرًا الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد، ويجوز اعتباره متعديًا الذي مضارعه يصُد بضم الصاد، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل.
وقرأه حمزة والكسائي وعاصم بضم الصاد.
والقول فيه كالقول في: {زُيِّنَ لِفِرعونَ سُوءُ عَمَلهِ}.
وتعريف {السبيل} للعهد، أي سبيل الله، أو سبيل الخير، أو سبيل الهدى.
ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع، أي صد عن السبيل الكامل الصالح.
وجملة {ومَا كَيْدُ فِرعون إلا في تَبَابٍ} عطف على جملة {وكذلك زُيِّنَ لفرعون سُوَءُ عَمَلِه} والمراد بكيده ما أَمر به من بناء الصرح والغايةِ منه، وسمي كيدًا لأنه عمل ليس المراد به ظاهره بل أريد به الإِفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه السلام.
والتباب: الخسران والهلاك، ومنه: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهببٍ وتَبَّ} [المسد: 1]، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل: ومَا كَيدُ فرعون إلاَّ بتَبَابٍ شديد، والاستثناء من أحوال مقدرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل} قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه. اهـ.. باختصار.

.تفسير الآيات (38- 40):

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحًا، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحًا في قوله مناديًا قومه ومستعطفًا لهم ثلاث مرات: الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه: {وقال الذي آمن} أي مشيرًا إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ: {يا قوم} أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم {اتبعون} أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالبًا تكون فيما يكره الإنسان {أهدكم سبيل} أي طريق {الرشاد} أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولابد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعيًا أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح.
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافًا في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبينًا أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقرًا للدنيا مصغرًا لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله {يا قوم} كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.
ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال: {إنما هذه الحياة} وحقرها بقوله: {الدنيا} إشارة إلى دناءتها وبقوله: {متاع} إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال: {وإن الآخرة} لكونها المقصودة بالذات {هي دار القرار} التي لا تحول منها أصلًا دائم كل شيء من ثوابها وعقابها، فهي للتلذذ والانتفاع والترفه والاتساع لمن توسل إلى ذلك بحسن الاتباع أو للشقاوة والهلاك، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الأصفهاني: قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا والآخرة خزفًا باقيًا، لكانت الآخرة خيرًا من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن.
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك: ذكر المتاع أولًا دليلًا على حذف التوسع ثانيًا، والقرار ثانيًا دليلًا على حذف الارتحال أولًا.