فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{مَنْ} من قوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِئةَ} شرطية.
ومعنى {إلاَّ مِثْلَهَا} المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير.
وفي صحيح البخاري عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال: أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم.
وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه.
ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول: {ومَنْ عَمِلَ صالحا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّء فإن سُوءه وفساده جُزئي مُنقَضضٍ فكان العقاب عليه غير أبدي، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبديًا، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله: {فَلاَ يُجْزَىَ إلاَّ مِثلها} أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مِثْل الكفر في كونه ملازمًا للكافر إِن مات كافرًا.
وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإِيمان، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع، ونظير هذا المعنى قوله تعالى: {فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 13 17].
وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه: من عمل صالحًا ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله: {مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها} فإنْ خلَط المؤمن عملًا صالحًا وسيئًا فالمقاصة، وبيانه في تفاصيل الشريعة.
وقوله: {بِغَيْرِ حِسابٍ} كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى: {إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب} في سورة [آل عمران: 37].
و{مَن} في قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صالحا} إلخ شرطية، وجوابها {فأولئك يَدْخُلون الجنَّة}.
وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر.
والمعنى: أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّىء لا تدخلونها.
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أوْ أنثى} بيان لما في {مَنْ من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ ذَكَرٍ أو أنثى} مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصًا على إرادة العموم، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضًا بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء.
وقرأ الجمهور {يَدْخُلونَ الجَنَّة} بفتح الياء.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء، والمعنى واحد. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} قد قدمنا ذكر الخلاف في هذه الأقوال كلها، هل هي من قول مؤمني آل فرعون أو من قول موسى عليه السلام: وقالت فرقة من المتأولين منه الطبري: {يوسف} المذكور هو يوسف بن يعقوب صلى الله عليه. وقالت فرقة: بل هو حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. و{البينات} التي جاء بها يوسف لم تعين لنا حتى نقف على معجزاته. وروي عن وهب بن منبه أن فرعون موسى لقي يوسف، وأن هذا التقريع له كان. وروى أشهب عن مالك أن بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقالت فرقة: بل هو فرعون آخر.
وقوله: {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولًا} حكاية لرتبه قولهم لأنهم إنما أرادوا أن يجيء بعد هذا من يدعي مثل ما ادعى ولم يقر أولئك قط برسالة الأول ولا الآخر، ولا بأن الله يبعث الرسل فحكى رتبة قولهم، وجاءت عبارتهم مشنعة عليهم، ولذلك قال بإثر هذا: {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} أي كما صيركم من الكفر والضلالة في هذا الحد فنحو ذلك هو إضلاله لصنعكم أهل السرف في الأمور وتعدي الطور والارتياب بالحقائق. وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: {قلتم لن يبعث الله} ثم إنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في قوم فرعون، فكأنه أرادهم فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلابًا، فقال: {الذين يجادلون في آيات الله} أي بالإبطال لها والرد بغير برهان ولا حجة أتتهم من عند الله كبر مقت جدالهم عند الله، فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه، ورد الفاعل ب {كبر} نصيبًا على التمييز كقولك: تفقأت شحمًا وتصببت عرقًا. و: {يطبع} معناه. يختم بالضلال ويحجب عن الهدى.
وقرأ أبو عمرو وحده الأعرج بخلاف عنه {على كلِّ قلب} بالتنوين {متكبرًا} على الصفة. وقرأ الباقون: {على كلِّ قلبِ} بغير تنوين وبإضافته إلى {متكبرٍ}. قال أبو علي: المعنى يطبع الله على القلوب إذ كانت قلبًا قلبًا من كل متكبر، ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن مسعود: {على قلب كل متكبر جبار}.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه أن يكون المراد عموم قلب المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من إيمان ولا مقاربة فهي عبارة عن شدة إظلامه.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)} ذكر الله عز وجل مقالة فرعون حين أعيته الحيل في مقاومة موسى عليه السلام بحجة، وظهر لجميع المشاهدين أن ما يدعو إليه موسى من عبادة إله السماء حق، فنادى فرعون هامان وهو زيره والناظر في أموره، فأمره أن يبني له بناء عاليًا نحو السماء. و الصرح كل بناء عظيم شنيع القدر، مأخوذ من الظهور والصراحة، ومنه قولهم: صريح النسب، وصرح بقوله، فيورى أن هامان طبخ الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله، وبناه ارتفاع مائة ذراع فعبث الله جبريل فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر، تفرقت اثنتان ووقعت ثالثة في البحر. وروي أن هامان لم يكن من القبط، وقيل: كان منهم. و: {الأسباب} الطرق، قاله السدي. وقال قتادة: أراد الأبواب وقيل: عنى لعله يجد مع قربه من السماء سببًا يتعلق به.
وقرأ الجمهور: {فأطلع} بالرفع عطفًا على {أبلغ} وقرأ حفص عن عاصم والأعرج: {فأطلعَ} بالنصب بالفاء في جواب التمني.
ولما قال فرعون بمحضر من ملإه {فأطلع إلى إله موسى} اقتضى كلامه الإقرار ب {إله موسى} فاستدرك ذلك استدراكًا قلقًا بقوله: {وإني لأظنه كاذبًا} ثم قال تعالى: {وكذلك زين} أي إنه كما تخرق فرعون في بناء الصرح والأخذ في هذه الفنون المقصرة كذلك جرى جميع أمره. و: {زين} أي زين الشيطان سوء عمله في كل أفعاله.
وقرأ الجمهور: {وصد عن السبيل} بفتح الصاد بإسناد الفعل إلى فرعون. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وجماعة: {وصُدَّ} بضم الصاد وفتح الدال المشددة عطفًا على {زين} وحملًا عليه. وقرأ يحيى بن وثاب: {وصِد} بكسر الصاد على معنى صد، أصله، صدد، فنقلت الحركة ثم أدغمت الدال في الدال. وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد ورفع الدال المشددة وتنوينها عطفًا على قوله: {سوء عمله}.
و: {السبيل} سبيل الشرع والإيمان و{التباب} الخسران، ومنه: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] وبه فسر مجاهد وقتادة. وتب فرعون ظاهر، لأنه خسر ماله في الصرح وغيره، وخسر ملكه وخسر نفسه وخلد في جهنم، ثم وعظ الذي آمن فدعا إلى اتباع أمر الله.
وقوله: {اتبعون أهدكم} يقوي أن المتكلم موسى، وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك، أي اتبعوني في اتباعي موسى، ثم زهد في الدنيا وأخبر أنه شيء يتمتع به قليلًا، ورغب في الآخرة إذ هي دار الاستقرار.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو رجاء وشيبة والأعمش: {يَدخُلون} بفتح الياء وضم الخاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى: {يُدخَلون} بضم الياء وفتح الخاء. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)} الجمهور: على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل: {أتقتلون رجلًا} قص الله أقاويله إلى آخر الآيات.
لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف، أتى بنوع آخر من التهديد، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد، ولم يهب فرعون.
وقالت فرقة: بل كلام ذلك المؤمن قد تم، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى، عليه السلام، واحتجوا بقوة كلامه، وأنه جنح معهم بالإيمان، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك، ولم يكن كلام الأول الاعلانية لهم، وأفرد اليوم، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب، أو أراد به الجمع، أي مثل أيام الأحزاب لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم.
و{الأحزاب} الذين تحزبوا على أنبياء الله.
{مثل دأب} قال ابن عطية: بدل.
وقال الزمخشري: عطف بيان.
وقال الزجاج: مثل يوم حزب ودأب عادتهم ودينهم في الكفر والمعاصي.
{وما الله يريد ظلمًا للعباد} أي إن إهلاكه إياهم كان عدلًا منه، وفيه مبالغة في نفي الظلم، حيث علقه بالإرادة.
فإذا نفاه عن الإرادة، كأن نفيه عن الوقوع أولى وأحرى.
ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب، خوفهم أمر الآخرة فقال، تعطفًا لهم بندائهم: {يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد} وهو يوم الحشر.
والتنادي مصدر تنادي القوم: أي نادى بعضهم بعضًا.
قال الشاعر:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسًا ** فقلت أعند الله ذلكم الردى

وسمي يوم التنادي، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر، وإما لنداء المؤمن: {هاؤم اقرؤا كتابيه} والكافر: {يا ليتني لم أوت كتابية} وقرأت فرقة: التناد، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، والكلبي، والزعفراني، وابن مقسم: التناد، بتشديد الدال: من ندَّ البعير إذا هرب.
كما قال: {يفر المرء من أخيه} الآية وقال ابن عباس، وغيره: في التناد خفيفة الدال هو التنادي، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم، وينادي بعضهم بعضًا.
وروي هذا التأويل عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. انتهى.
قال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ** فهم سكانها حتى التنادي

وفي الحديث: «إن للناس جولة يوم القيامة يندّون» يظنون أنهم يجدون مهربًا؛ ثم تلا: {يوم تولون مدبرين} قال مجاهد: معناه فارين.
وقال السدّي: {ما لكم من الله من عاصم} في فراركم حتى تعذبوا في النار.
وقال قتادة: ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم، أي مانع، يمنعكم منها، أو ناصر.
ولما يئس المؤمن من قبولها قال: {ومن يضلل الله فما له من هاد}.
ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات.
والظاهر أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون هو فرعون موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة.
وقيل: بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، وأن فرعون هو فرعون، غير فرعون موسى.
و{بالبينات} بالمعجزات.
فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين، حتى إذا توفى، {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولًا}.
وليس هذا تصديقًا لرسالته، وكيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى: لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول، ونفي بعثته.
وقرئ: ألن يبعث، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا على نفي البعثة.
{كذلك} أي مثل إضلال الله إياكم، أي حين لم تقبلوا من يوسف، {يضل الله من هو مسرف مرتاب} يعنيهم، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.
وجوزوا في {الذين يجادلون} أن تكون صفة لمن، وبدلًا منه: أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في {كبر} عائدًا على ذلك أولًا، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله: {يجادلون} أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلًا أعيد أولًا على لفظ من في قوله: {هو مسرف كذاب}.
ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله: {كبر} على لفظ من.
وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون {الذين يجادلون} مبتدأ وبغير {سلطان أتاهم} خبرًا، وفاعل {كبر}.
قوله: {كذلك} أي {كبر مقتًا} مثل ذلك الجدال، و{يطبع الله} كلام مستأنف، ومن قال: {كبر مقتًا عند الله} جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه.
انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه.