فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى الأوزاعي عن يحيى بن كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه على عنقه، وخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ} {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} يعني: فعليه وبال كذبه، فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة، ولا برهان.
{وَإِن يَكُ صادقا} في قوله، وكذبتموه، {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} من العذاب.
يعني: بعض ذلك العذاب يصبكم في الدنيا.
ويقال: بعض الذي يعدكم فيه.
أي: جميع الذي يعدكم، كقوله: {وَلَمَّا جَاءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [الزخرف: 63] أي: جميع الذي تختلفون فيه، {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى} يعني: لا يرشد، ولا يوفق إلى دينه، {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في قوله: {كَذَّابٌ} يعني: الذي عادته الكذب.
{كَذَّابٌ يا قوم لَكُمُ الملك اليوم} أي: ملك مصر، {ظاهرين في الأرض} أي: غالبين على أرض مصر، {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} يعني: من يعصمنا من عذاب الله، {إِن جَاءنَا} يعني: أرأيتم إن قتلتم موسى، وهو الصادق، فمن يمنعنا من عذاب الله.
فلما سمع فرعون قول المؤمن، {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى} يعني: ما أريكم من الهدى، إلا ما أرى لنفسي.
ويقال: ما آمركم إلا ما رأيت لنفسي أنه حق وصواب، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} يعني: ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى وقرئ في الشاذ {الرشاد} بتشديد الشين.
يعني: سبيل الرشاد الذي يرشد الناس.
ويقال: رشاد اسم من أسماء أصنامه.
قوله: {وَقَالَ الذي ءامَنَ} وهو حزبيل {ءامَنَ يا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب} يعني: أخاف عليكم من تكذيبكم مثل عذاب الأمم الخالية، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} أي مثل عذاب قوم نوح، {وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعِبَادِ} يعني: لا يعذبهم بغير ذنب، {لّلْعِبَادِ وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} وهو من نَدَّ يَند، وهو من تنادى، يتنادى، تناديًا.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس أنه قرأ: {يَوْمَ التناد} بتشديد الدال.
وقال: تندون كما تند الإبل، وهذا موافق لما بعده، {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} وكقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34، 35].
وقرأ الحسن يَوْمَ التَّنَادِي بالياء، وهو من النداء.
يوم ينادى كل قوم بأعمالهم.
وينادي المنادي من مكان بعيد.
وينادي أهل النار أهل الجنة.
وينادي أهل الجنة أهل النار {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] وقراءة العامة.
التناد بالتخفيف بغير ياء، وأصله الياء، فحذف الياء، لأن الكسرة تدل عليه، وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي: هاربين.
قال الكلبي: هاربين، إذا انطلق بهم إلى النار، فعاينوها، هربوا.
فيقال لهم: {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: ليس لكم من عذاب الله من مانع.
وقال مقاتل: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي: ذاهبين بعد الحساب إلى النار، كقوله: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي ذاهبين {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يعني: من مانع من عذابه.
{وَمَن يُضْلِلِ الله} عن الهدى، {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يعني: من مرشد، وموفق.
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} هذا قول حزبيل أيضًا لقوم فرعون قال: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ} ويقال: يعني: به أهل مصر، وهم الذين قبل فرعون، لأن القرون الذين كانوا في زمن فرعون، لم يروا يوسف، وهذا كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] وإنما أراد به آباءهم {بالبينات} أي: بتعبير الرؤيا.
وروي عن وهب بن منبه: قال فرعون: موسى هو الذي كان في زمن يوسف، وعاش إلى وقت موسى.
وهذا خلاف قول جميع المفسرين.
{فَمَا زِلْتُمْ في شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من تصديق الرؤيا، وبما أخبركم، {حتى إِذَا هَلَكَ} يعني: مات، {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولًا}.
يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} يعني: من هو مشرك، شاك في توحيد الله.
ثم وصفهم فقال: {الذين يجادلون في ءايات الله بِغَيْرِ سلطان} أي: بغير حجة {أتاهم كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله} أي: عظم بغضًا لهم من الله، {وَعِندَ الذين ءامَنُواْ} يعني: عند المؤمنين {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} أي: يختم الله بالكفر، {على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} يعني: متكبر عن عبادة الله تعالى.
قرأ أبو عمرو: {قَلْبِ مُتَكَبّرٍ} بالتنوين.
جعل قوله متكبر نعتًا للقلب.
ومعناه: أن صاحبه متكبر.
والباقون: {قَلْبِ مُتَكَبّرٍ} بغير تنوين على معنى الإضافة، لأن المتكبر هو الرجل، وأضاف القلب إليه.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحًا} أي: قصرًا مشيدًا {لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب} يعني: أصعد طرق السموات، {فَأَطَّلِعَ} أي: انظر {إلى إله موسى} الذي يزعم أنه أرسله.
وقال مقاتل، والقتبي: {أسباب السموات} أبوابها.
قرأ عاصم في رواية حفص: {فَأَطَّلِعَ} بنصب العين.
والباقون: بالضم.
فمن قرأ: بالنصب.
جعله جوابًا للفعل.
ومن قرأ بالضم رده إلى قوله: أبلغ الأسباب، فأطلع.
{وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا} أي: لأحسب موسى كاذبًا في قوله.
قال الله تعالى: {وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ} أي: قبح عمله، {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي: الدين، والتوحيد.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: {وَصُدَّ} بضم الصاد.
والباقون: بالنصب.
فمن قرأ: بالضم.
فمعناه: إن فرعون صرف عن طريق الهدى.
يعني: إن الشيطان زين له سوء عمله، وصرفه عن طريق الهدى.
ومن قرأ: بالنصب.
فمعناه: صرف فرعون الناس عن الدين.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَبَابٍ} أي: ما صنع فرعون إلا في خسارة يوم القيامة، كقوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} {صلى الله عليه وسلم} [المسد: 1] يعني: إن فرعون اختار متاعًا قليلًا، وترك الجنة الباقية، فكان عمله في الخسارة.
{وَقَالَ الذي ءامَنَ} وهو حزبيل {عَلَيْهِ قَوْمٌ} {اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} يعني: أطيعوني حتى أرشدكم، وأبيّن لكم دين الصواب.
قوله تعالى: {سَبِيلَ الرشاد يا قوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا} أي: قليل، {وَإِنَّ الآخرة هي دَارُ القرار} لا زوال لها.
{مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} يعني: من عمل الشرك فلا يجزى إلا النار في الآخرة.
{وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يعني: من رجل، أو امرأة، {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير مقدار.
وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى قال: {مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً} ولم يقل من ذكر أو أنثى.
وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} لأن العمل الصالح يَحْسُن من الرجل، والمرأة.
والسيئة من المرأة، أقبح من الرجل.
فلم يذكر من ذكر أو أنثى. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {كانوا هم أشدَّ منهم قوة} فيه وجهان:
أحدهما: يعني بطشًا، قاله يحيى.
الثاني: قدرة، قاله ابن عيسى.
{وآثارًا في الأرض} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنها آثارهم من الملابس والأبنية، قاله يحيى.
الثاني: خراب الأرضين وعمارتها، قاله مجاهد.
الثالث: المشي فيها بأرجلهم، قاله ابن جريج.
الرابع: بُعْد الغاية في الطلب، قاله الكلبي.
الخامس: طول الأعمار، قاله مقاتل.
ويحتمل سادسًا: ما سنوا فيها من خير وشر.
قوله عز وجل: {وقال فرعون ذروني أقتُل موسى} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه أشيروا عليّ بقتل موسى لأنهم قد كانوا أشاروا عليه بأن لا يقتله لأنه لو قتله منعوه، قاله ابن زياد.
الثاني: ذروني أتولى قتله، لأنهم قالوا إن موسى ساحر إن قتلته هلكت لأنه لو أمر بقتله خالفوه.
الثالث: أنه كان في قومه مؤمنون يمنعونه من قتله. فسألهم تمكينه من قتله.
{وليدع ربه} فيه وجهان:
أحدهما: وليسأل ربه فإنه لا يجاب.
الثاني: وليستعن به فإنه لا يعان.
{إني أخاف أن يبدِّل دينكم} فيها وجهان:
أحدهما: يغير أمركم الذي أنتم عليه، قاله قتادة.
الثاني: معناه هو أن يعمل بطاعة الله، رواه سعيد بن أبي عروبة.
الثالث: محاربته لفرعون بمن آمن به، حكاه ابن عيسى.
الرابع: هو أن يقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم، قاله ابن جريج.
ويحتمل خامسًا: أن يزول به ملككم لأنه ما تجدد دين إلا زال به ملك.
قوله عز وجل: {وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} فيه قولان:
أحدهما: أنه كان ابن عم فرعون، قاله السدي، قال وهو الذي نجا مع موسى.
الثاني: أنه كان قبطيًا من جنسه ولم يكن من أهله، قاله مقاتل.
قال ابن إسحاق: وكان أسمه حبيب.
وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل، وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون، بمنزلة ولي العهد.
وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال: {إن الملأ يأتمرون بك} [القصص: 20].
وفي إيمانه قولان:
أحدهما: أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر. الثاني: أنه كان مؤمنًا قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن، فكتم إيمانه، قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه.
{أتقتلون رجلًا أن يقول ربي اللهُ} أي لقوله ربي الله.
{وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم} فيها قولان:
أحدهما: أنه الحلال والحرام، قاله السدي.
الثاني: أنها الآيات التي جاءتهم: يده وعصاه والطوفان وغيرها، كما قال تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات} [الأعراف: 130] قاله يحيى.
{وإن يك كَاذبًا فعليه كَذِبُه} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفًا في الاستكفاف واستنزالًا عن الأذى.
{وإن يَكُ صادقًا يصبكم بعض الذي يعدُكم} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا، فقال: {يصبكم بعض الذي يعدكم} لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله.
الثاني: لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم.
الثالث: أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالًا بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه.
الرابع: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفًا في الخطاب وتوسعًا في الكلام كما قال الشاعر:
قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل

{إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى، ويكون هذا من قول المؤمن.
الثاني: مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قوله تعالى.