فصل: تفسير الآيات (41- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابع: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، نقله الزمخشري. قال: ومَنْ قال: كَبُرَ مَقْتًا عند الله جِدالُهم، فقد حَذَفَ الفاعلَ، والفاعلُ لا يصِحُّ حَذْفُه. قلت: القائلُ بذلك الحوفيُّ، لكنه لا يريدُ بذلك تفسيرَ الإِعراب، إنما يريدُ به تفسيرَ المعنى، وهو معنى ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهومِ مِنْ فعلِه، فصَرَّح الحوفيُّ بالأصلِ، وهو الاسمُ الظاهرُ، ومرادُه ضميرٌ يعودُ عليه.
الخامس: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على ما بعدَه، وهو التمييزُ نحو: نِعْمَ رَجُلًا زيدٌ، و بئس غلامًا عمروٌ. السادس: أنه ضميرٌ يعودُ على مَنْ مِنْ قولِه: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. وأعاد الضميرَ مِنْ {كَبُرَ} مفردًا اعتبارًا بلفظِها، وحينئذٍ يكونُ قد راعَى لفظَ مَنْ أولًا في {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} ثم معناها ثانيًا في قوله: {الذين يُجَادِلُونَ} إلى آخره، ثم لفظَها ثالثًا في قوله: {كَبُر}. وهذا كلُّه إذا أَعْرَبْتَ {الذين} تابعًا لمَنْ هو مُسْرِفٌ نعتًا أو بيانًا أو بدلًا.
وقد عَرَفْتَ أن الجملةَ مِنْ قولِه: {كَبُرَ مَقْتًا} فيها وجهان، أحدهما: الرفعُ إذا جَعلْناها خبرًا لمبتدأ. والثاني: أنها لا محلَّ لها إذا لم تجْعَلْها خبرًا. بل هي جملةٌ استِئْنافية. وقوله: {عندَ الله} متعلقٌ ب {كَبُرَ} وكذلك قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا لمبتدأ محذوفٍ، وأنْ يكونَ فاعلًا وهما ضعيفان. والثالث- وهو الصحيحُ- أنه معمولٌ ل {يَطْبَعُ} أي: مثلَ ذلك الطَّبْعِ يطبعُ اللَّهُ. و{يطبعُ اللَّهُ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مستأنفٌ. والثاني: أنه خبرٌ للموصولِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك كلِّه.
قوله: {قَلْبِ متكبِّرٍ} قرأ أبو عمروٍ وابن ذكوان بتنوين {قلب} وَصَفا القلبَ بالتكبُّر والجَبَروتِ؛ لأنهما ناشئان منه، وإنْ كان المرادُ الجملةَ، كما وُصِف بالإِثمِ في قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. والباقون بإضافة {قلب} إلى ما بعدَه أي: على كلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبِّرٍ. وقد قَدَّرَ الزمخشريُّ مضافًا في القراءةِ الأولى أي: على كلِّ ذي قلب متكبر، تجعلُ الصفةَ لصاحبِ القلب. قال الشيخ: ولا ضرورةَ تَدْعو إلى اعتقادِ الحذفِ. قلت: بل ثَمَّ ضرورةٌ إلى ذلك وهو توافُقُ القراءَتَيْن، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في القراءتَيْن واحدًا، وهو صاحبُ القلب، بخلافِ عَدَم التقديرِ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في إحداهما القلبَ وفي الأخرى صاحبَه.
{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)}.
قوله: {أَسْبَابَ السماوات} فيه وجهان، أحدهما: أنه تابعٌ للأسبابِ قبله بدلًا أو عطفَ بيان. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَعْني، والأولُ أَوْلَى؛ إذ الأصلُ عدمُ الإِضمارِ.
قوله: {فَأَطَّلِعَ} العامَّةُ على رفعِه عَطْفًا على {أَبْلُغُ} فهو داخِلٌ في حَيِّزِ الترجِّي. وقرأ حفصٌ في آخرين بنصبِه. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ الأمرِ في قولِه: {ابْنِ لي} فنُصِبَ بأَنْ مضمرةً بعد الفاءِ في جوابِه على قاعدة البصريين كقولِه:
يا ناقُ سِيْري عَنَقًا فَسِيحا ** إلى سليمانَ فَنَسْتريحا

وهذا أَوْفَقُ لمذهب البصريين. الثاني: أنه منصوبٌ. قال الشيخ: عَطْفًا على التوهُّمِ لأنَّ خبر لعلَّ كثيرًا جاء مَقْرونًا بأن، كثيرًا في النظمِ وقليلًا في النثر. فمَنْ نَصَبَ تَوَهَّم أنَّ الفعلَ المرفوعَ الواقعَ خبرًا منصوبٌ ب أنْ، والعطفُ على التوهُّمِ كثيرٌ، وإنْ كان لا ينقاسُ انتهى. الثالث: أن يَنْتَصِبَ على جوابِ الترجِّي في لعلَّ، وهو مذهبٌ كوفي استشهد أصحابُه بهذه القراءةِ وبقراءة عاصم {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ} [عبس: 3- 4] بنصب {فتنفَعَه} جوابًا لِقوله: {لعلَّه}. وإلى هذا نحا الزمخشري قال: تشبيهًا للترجِّي بالتمني والبصريُّون يأبَوْن ذلك، ويُخَرِّجُون القراءتَيْنِ على ما تقدَّم. وفي سورة عبس يجوز أن يكون جوابًا للاستفهام في قولِه: {وما يُدْريك} فإنه مترتبٌ عليه معنىً. وقال ابن عطية وابن جُبارة الهُذلي: على جواب التمني وفيه نظرٌ؛ إذ ليس في اللفظِ تَمَنٍّ، إنَّما فيه تَرَجٍّ. وقد فَرَّقَ الناسُ بين التمني والترجِّي: بأنَّ الترجِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الممكنِ عكسَ التمني، فإنه يكونُ فيه وفي المستحيلِ كقولِه:
لَيْتَ الشبابَ هو الرَّجيعُ على الفتى ** والشيبُ كان هو البَدِئُ الأولُ

وقُرِئ {زَيَّنَ لفرعونَ} مبنيًّا للفاعلِ وهو الشيطانُ. وتقدَّم الخلافُ في {وَصُدَّ عَنِ السبيل} في الرعد فمَنْ بناه للفاعلِ حَذَفَ المفعولَ أي: صَدَّ قومَه عن السبيلِ. وابنُ وثَّاب {وصِدَّ} بكسرِ الصادِ، كأنه نَقَل حركةَ الدالِ الأولى إلى فاءِ الكلمة بعد توهُّمِ سَلْبِ حركتِها. وقد تقدَّم ذلك في نحو رِدَّ وأنه يجوزُ فيه ثلاثُ اللغاتِ الجائزةِ في قيل وبِيع. وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة {وصَدٌّ} بفتح الصادِ ورفع الدالِ منونةً جعله مصدرًا منسوقًا على {سوءُ عملِه} أي: زَيَّن له الشيطانُ سوءَ العملِ والصدَّ. والتَّباب: الخَسارُ. وقد تقدَّم ذلك في قوله: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. وتقدَّم الخِلافُ أيضًا في قوله: {يَدْخُلُونَ الجنة} في سورة النساء [الآية: 40]. اهـ.

.تفسير الآيات (41- 46):

قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان: هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتًا لهم بسوء مكافأتهم مناديًا لهم مكررًا للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة.
والتذكير بأنهم قومه واعضاده، وعاطفًا على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه: {ويا قوم ما} أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح {لي} في أني {أدعوكم إلى النجاة} والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافًا بحقكم {و} مالكم من ذلك في كونكم {تدعونني إلى النار} والهلاك بالكفران، فالآية من الاحتباك: ذكر النجاة الملازمة للايمان أولًا دليلًا على حذف الجنة أولًا، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليس من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة.
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالًا، بينه بقوله: {تدعونني} أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم {لأكفر} أي لأجل أن أكفر {بالله} أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر {وأشرك} أي أوقع الشرك {به} أي أجعل له شريكًا.
ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال: {ما ليس لي به علم} أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعًا من الشرك، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة، فلم يكن له وجود لأن الملك لازم الإلهية وهو أشهر الأشياء، فما ادعى له أشهر الأشياء، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه، كان عدمًا محضًا.
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلًا عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيرًا بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها: {وأنا ادعوكم} أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده {إلى العزيز} أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء.
ولما وصفه بهذا الوصف ترهيبًا، صح قطعًا وصفه ترغيبًا بقوله: {الغفار} أي الذي يتكرر له دائمًا محو الذنب عينًا وأثرًا ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه، من صفات الكمال أحد، فالآية من الاحتباك: ذكرًا أولًا عدم العلم دليلًا على العلم ثانيًا، وثانيًا العزة والمغفرة دليلًا على حذفهما أولًا.
ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في أصول الدين، كان ما دعوه إليه باطلًا، وكان ما دعاهم إليه هو الحق، فلذلك أنتج قطعًا قوله: {لا جرم} وهي وإن كانت بمعنى: لا ظن ولا اضطراب أصلًا- كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة، أي فلأجل ذلك لا شك في {أنما} أي الذي {تدعونني إليه} من هذه الأنداد {ليس له دعوة} بوجه من الوجوه، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة {في الدنيا} التي هي محل الأسباب، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين {ولا في الآخرة} لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون {وإن} أي ولا اضطراب في أن {مردنا} أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ {إلى الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته، فيجازي كل أحد بما يستحقه {وأنَّ} أي ولا شك في أن {المسرفين} أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف {هم} أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم {أصحاب النار} أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها.
ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لابد من المعاد، تسبب عنه بقوله: {فستذكرون} أي قطعًا بوعد لا خلف فيه مع القرب {ما أقول لكم} حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه.
ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفًا على ستذكرون غير مراعى فيها معنى السين: {وأفوض} أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله {أمري} فيما تمكرونه بي {إلى الله} أي الذي أحاط بكل شيء علمًا وقدرة فهو يحميني منكم: إن شاء، قال صاحب المنازل: التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام، والتوكل شعبة منه، وهو على ثلاث درجات: الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية، والثانية معاينة الاضطرار فلا ترى عملًا منجيًا ولا ذنبًا مهلكًا ولا سببًا حاملًا، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع.
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة، على ذلك بيانًا لمراده بقوله مؤكدًا لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره {إن الله} وكرر الاسم الأعظم بيانًا لمراده بأنه {بصير} أي بالغ البصر {بالعباد} ظاهرًا وباطنًا، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة.
ولما تسبب عن نصحه هذا لهم والتجائه إلى ملك الملوك حفظه منهم على عظم الخطر، قال تعالى مخبرًا أنه صدق ظنه {فوقاه الله} أي جعل له وقاية تجنه منهم بما له سبحانه من الجلال والعظمة والكمال جزاء على تفويضه {سيئات} أي شدائد {ما مكروا} دينًا ودنيا، فنجاه مع موسى عليه السلام تصديقًا لوعده سبحانه بقوله: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] ولما كان المكر السيء لا يحيق إلا بأهله قال: {وحاق} أي نزل محيطًا بعد إحاطة الإغراق {بآل فرعون} أي كلهم فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم، فالإحاطة بفرعون من باب الأولى وإن لم نقل: أن الآل مشترك بين الشخص والأتباع، لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه فهو مفهوم موافقة {سوء العذاب} أي العقوبة المانعة من كل مستعذب، ثم بين ذلك بقوله: {النار} أي حال كونهم {يُعرضون عليها} أي في البرزخ {غدوًا وعشيًا} أي غادين ورائحين في وقت استرواحهم بالأكل واستلذاذهم به- هذا دأبهم طول أيام البرزخ، وكان عليهم في هذا العرض زيادة نكد فوق ما ورد عامًا مما روى مالك والشيخان وغيرهم عن أن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» ولعل زيادة النكد أنهم هم المعروضون، فيذهب بهم في الأغلال يساقون لينظروا ما أعد الله لهم، وعامة الناس يقتصر في ذلك على أن يكشف لهم- وهو في محالّهم- عن مقاعدهم، ففي ذلك زيادة إهانة لهم، وهو مثل: عرض الأمير فلانًا على السيف إذا أراد قتله، هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة {ويوم تقوم الساعة} يقال لهم: {ادخلوا آل} أي يا آل {فرعون} هو نفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به، وجعله نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص فعل أمر من الإدخال، فالتقدير: نقول لبعض جنودنا: أدخلوا آله لأجل ضلالهم به اليوم {أشد العذاب} وإذا كان هذا لآله لأجله كان له أعظم منه من باب الأولى، وهذه الآية نص في عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال: {يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار، فإن قيل لم كرر نداء قومه، ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلنا أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة، وإظهار أن له بهذا المهم مزيد اهتمام، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة، وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول، لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين، وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه، ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار، فسّر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به، أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله، ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام وقوله تعالى: {وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} المراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكًا للإله؟ ولما بيّن أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله: {العزيز} إشارة إلى كونه كامل القدرة، وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهًا، وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله: {الغفار} إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة، فإن إله العالم وإن كان عزيزًا لا يغلب قادرًا لا يغالب، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة، ثم قال ذلك المؤمن {لاَ جَرَمَ} والكلام في تفسير لا جرم مرّ في سورة هود في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] وقد أعاده صاحب الكشاف هاهنا فقال: {لاَ جَرَمَ} مساقه على مذهب البصريين أن يجعل لا ردًا لما دعاه إليه قومه و{جَرَمَ} فعل بمعنى حق و{إِنَّمَا} مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} [المائدة: 2] أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يقال إن {لاَ جَرَمَ} نظيره لابد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى لابد أنك تفعل كذا أنه لابد لك من فعله، فكذلك {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبدًا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقًا، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب الكشاف.