فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)} أكْرَمُ خَلْقِه في وقته كان موسى عليه السلام، وأخَسُّ خَلْقِه وأذَلُّهمِ في حُكْمِه وأشدُّهم كفرًا كان فرعون؛ فما قال أحدٌ غيره: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى} [القصص: 38].
فَبَعَثَ اللَّهُ- أخصَّ عباده إلى أخسِّ عباده، فقابله بالتكذيب، ونَسبَه إلى السِّحر، وأنْبَهُ بكل أنواع التانيب. ثم لم يُعَجِّلْ اللَّهُ عقوبته، وأمهله إلى أن أوصل إليه شِقْوَتَه- إنه سبحانه حليمٌ بعباده.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} عَزَم على إهلاكه وإهلاك قومه، واستعان على ذلك بجُنْدِه وخَيْلِه ورَجْلِه، ولكن كان كما قال الله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ في ضَلاَلٍ} لأنه إذا حَفَرَ أحدٌ لِوَلِيٍّ من أولياء الله تعالى حُفْرةً ما وقع فيها غيرُ حَافِرها بذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي لِيَسْتَعِنْ بربه، وإني أخاف أن يبدل دينكم، وأخاف أن يُفْسِدَ في الأرض، وكان المفْسِدُ هو فرعون، وهو كما قيل في المثل: رمَتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ ولكن كادَ له الكيد، والكائد لا يتخلص من كيده.
فاستغاذ موسى بربه، وانْتُدِبَ في الردِّ عليهم مؤمِنٌ بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} نَصَحَهُم واحتَجَّ عليهم فلم ينجح فيهم نُُصْحٌ ولا قَولٌ. وكم كَرَّرَ ذلكْ المؤمن من آل فرعون القولَ وأعاد لهم النُّصْحَ! فلم يستمعوا له، وكان كما قيل:
وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحةٍ ** وقد يستفيد البغضة المتنصِّحُ

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)} بَيَّنَ أنَّ تكذيبَهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل، وكما أهلك أولئك قديمًا كذلك يفعل بهؤلاء.
قوله جلّ ذكره: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ كَاذِبًا}.
السببُ ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء؛ أي لعلِّي أصل إلى السماء فأطَّلِعَ إلى إله موسى. ولو لم يكن من المضاهاة بين مَنْ قال إن المعبودَ في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفي به خِزْيًا لمذهبم. وقد غَلِطَ فرعونُ حين تَوَهَّمَ أنَّ المعبودَ في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعونُ مُصِيبًا في طَلَبِه من السماء.
قوله جل ذكره: {وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَبَابٍ}.
أخبر أنَّ اعتقادَه بأنَّ المعبودَ في السماء خطأٌ، وأنَّه بذلك مصدودٌ عن سبيل الله.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} أصَرًَّ على دعائه وأصَرُّوا على جحودهم وعُنُودِهم.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} {فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} في المقدار لا في الصفة؛ لأن الأولى سيئة، والمكافأةُ من الله عليها حسنةٌ وليست بسيئة.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يعني في الحال، لأنَّ مَنْ لا يكون مؤمنًا في الحال لا يكون منه العملُ الصالح، {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي رزقًا مؤبَّدًا مُخَلَّدًا، لا يخرجون من الجنة ولا مِمَّا هم عليه من المآل.
{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)} وهذا كُلُّه مِنْ قَوْلِ مؤمنِ آل فرعونَ، ويقوله على جهة الأحتجاج لقومه، ويلزمهم الحجة به.
{تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)} تدعونني لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لي بصحة قولكم، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان، وأقيم عليه البيان.
{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} لا جَرمَ أنَّ ما تدعونني إليه باطل؛ فليس لتلك الأصنام حياةٌ ولا عِلْمٌ ولا قُدْرَةٌ، وهي لا تنفع ولا تَضُرُّ. ولقد علمنا- بقول الذين ظهر صِدْقُهم بالمعجزاتِ- كَذِبَكُم فيما تقولون.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)} أفوض أمري إلى الله، وأتوكل عليه، ولا أخاف منكم، ولا من كيدكم.
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} والآية تدلُّ على عذاب القبر.
ويقال إنَّ أرواح الكفار في حواصل طير سُودٍ تُعْرَضُ على النار غدوًا وعشيًا إلى يوم القيامة حيث تدخل النار.
{أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي يا آل فرعون أُدخُلوا أشدَّ العذاب، فَنَصَبه على النداء المضاف. ويقرأ {أَدْخِلوا} على الأمر.
{أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي أصعبهُ، وأصعبُ عذابٍ للكفار في النار يأسُهم من الخروج عنها. أمَّا العصاةُ من المؤمنين فأشدُّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يومُ لقاء المؤمنين، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليومُ أشدُّ أيام عذابهم. اهـ.

.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل {إياك نعبد وإياك نستعين} منزلة التفويض:
قال صاحب المنازل: وهو ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل فإن التوكل بعد وقوع السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل فالتفويض: براءة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأمر كله إلى مالكه.
فيقال: وكذلك التوكل أيضا وما قدحتم به في التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه ألبتة إلى مالكه وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل بل لو قال قائل: التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع لكان مصيبا ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه وصفوة المؤمنين بأن حالهم التوكل وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه وسماه المتوكل كما في صحيح البخارى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق.
وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل وبه انتصروا على قومهم وأخبر النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: أنهم أهل مقام التوكل ولم يجيء التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9] وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم: إن توكيل الرب فيه جسارة على البارى لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل وذلك عين الجسارة قال: ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه: لما جاز للعبد تعاطيه وهذا من أعظم الجهل فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية وخالص التوحيد إذا قام به صاحبه حقيقة ولله در سيد القوم وشيخ الطائفة سهل بن عبد الله التستري إذ يقول: العلم كله باب من التعبد والتعبد كله باب من الورع والورع كله باب من الزهد والزهد كله باب من التوكل فالذي نذهب إليه: أن التوكل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع قوله: فإن التوكل بعد وقوع السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده يعني بالسبب: الاكتساب فالمفوض قد فوض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعده والمتوكل قد قام بالسبب وتوكل فيه على الله فصار التفويض أوسع فيقال: والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله إلى مطلوبه فإذا قام به توكل على الله حال مباشرته فإذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته فيتوكل على الله قبله ومعه وبعده فعلى هذا: هو أوسع من التفويض على ما ذكر قوله: وهو عين الاستسلام أي التفويض عين الانقياد بالكلية إلى الحق سبحانه ولا يبالي أكان ما يقضى له الخير أم خلافه والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكل ورفع مقام التفويض عليه وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن المفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا فهو راض به لأنه يعلم أنه خير له وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه وهكذا حال المتوكل سواء بل هو أرفع من المفوض لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض فإن المتوكل مفوض وزيادة فلا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض فإنه إذا فوض أمره إليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه ونظير هذا: أن من فوض أمره إلى رجل وجعله إليه فإنه يجد من نفسه بعد تفويضه اعتمادا خاصا وسكونا وطمأنينة إلى المفوض إليه أكثر مما كان قبل التفويض وهذا هو حقيقة التوكل الوجه الثاني: أن أهم مصالح المتوكل: حصول مراضي محبوبه ومحابه فهو يتوكل عليه في تحصيلها له فأي مصلحة أعظم من هذه وأما التفويض: فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها إلى الله فإنه لا يفوض إليه محابه والمتوكل يتوكل في محابه والوهم إنما دخل من حيث يظن الظان: أن التوكل مقصور على معلوم الرزق وقوة البدن وصحة الجسم ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله.
قال: وهو على ثلاث درجات الأول أن يعلم أن العبد لا يملك قبل عمله استطاعة فلا يأمن من مكر ولا ييأس من معونة ولا يعول على نية.
أي يتحقق أن استطاعته بيد الله لا بيده فهو مالكها دونه فإنه إن لم يعطه الاستطاعة فهو عاجز فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه فكيف يأمن المكر وهو محرك لا محرك يحركه من حركته بيده فإن شاء ثبطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن منعه هذا التوفيق: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] فهذا مكر الله بالعبد: أن يقطع عنه مواد توفيقه ويخلي بينه وبين نفسه ولا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابه وليس هذا حقا على الله فيكون ظالما بمنعه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو مجرد فضله الذي يحمده على بذله لمن بذله وعلى منعه لمن منعه إياه فله الحمد على هذا وهذا ومن فهم هذا فهم بابا عظيما من سر القدر وانجلت له إشكالات كثيرة فهو سبحانه لا يريد من نفسه فعلا يفعله بعبده يقع منه ما يحبه ويرضاه فيمنعه فعل نفسه به وهو توفيقه لأنه يكرهه ويقهره على فعل مساخطه بل يكله إلى نفسه وحوله وقوته ويتخلى عنه فهذا هو المكر قوله: ولا ييأس من معونة يعني إذا كان المحرك له هو الرب جل جلاله وهو أقدر القادرين وهو الذي تفرد بخلقه ورزقه وهو أرحم الراحمين فكيف ييأس من معونته له.
قوله: ولا يعول على نية أي لا يعتمد على نيته وعزمه ويثق بها فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده وهي إلى الله لا إليه فلتكن ثقته بمن هي في يده حقا لا بمن هي جارية عليه حكما.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: معاينة الاضطرار فلا يرى عملا منجيا ولا ذنبا مهلكا ولا سببا حاملا أي يعاين فقره وفاقته وضرورته التامة إلى الله بحيث إنه يرى في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة وفاقة تامة إلى الله فنجاته إنما هي بالله لا بعمله.
وأما قوله: ولا ذنبا مهلكا فإن أراد به: أن هلاكه بالله لا بسبب ذنوبه: فباطل معاذ الله من ذلك وإن أراد به: أن فضل الله وسعته ومغفرته ورحمته ومشاهدة شدة ضرورته وفاقته إليه: يوجب له أن لا يرى ذنبا مهلكا فإن افتقاره وفاقته وضرورته تمنعه من الهلاك بذنوبه بل تمنعه من اقتحام الذنوب المهلكة إذ صاحب هذا المقام لا يصر على ذنوب تهلكه وهذا حاله فهذا حق وهو من مشاهد أهل المعرفة.
وقوله: ولا سببا حاملا أي يشهد: أن الحامل له هو الحق تعالى لا الأسباب التي يقوم بها فإنه وإياها محمولان بالله وحده.
فصل قال: الدرجة الثالثة: شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون:
والقبض والبسط ومعرفته بتصريف التفرقة والجمع هذه الدرجة تتعلق بشهود وصف الله تبارك وتعالى وشأنه والتي قبلها تتعلق بشهود حال العبد ووصفه أي يشهد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن فيشهد تعلق الحركة باسمه الباسط وتعلق السكون باسمه القابض فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض.
وأما معرفته بتصريف التفرقة والجمع فأن يكون المشاهد عارفا بمواضع التفرقة والجمع والمراد بالتفرقة: نظر الاعتبار ونسبة الأفعال إلى الخلق.
والمراد بالجمع: شهود الأفعال منسوبة إلى موجدها الحق تعالى وقد يريدون بالتفرقة والجمع: معنى وراء هذا الشهود وهو حال التفرقة والجمع فحال التفرقة: تفرق القلب في أودية الإرادات وشعابها وحال الجمع: جمعيته على مراد الحق وحده فالأول: علم التفرقة والجمع والثاني: حالهما والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم وفي قبورهم:
أخرجه أبو داود الطيالسي وعبد بن حميد في مسنديهما وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية. وهناد بن السرى في زهده. وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم.
وهو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد. فأما أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا أبو عوانة عن الأعمش. وقال هناد وأحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن عمرو، وقال: أبو داود: حدثنا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء- يعني ابن عازب- وحديث أبي عوانة أتمهما، قال البراء: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، قال عمر بن ثابت: وقع ولم يقله أبو عوانة، فجعل يرع بصره وينظر إلى السماء ويخفض بصره وينظر إلى الأرض، ثم قال: «أعوذ بالله من عذاب القبر قالها مرارًا ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، جاءه ملك فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا قال: عمرو في حديثه، ولم يقله أبو عوانة وإن كنتم ترون غير ذلك. وتنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من أكفان الجنة، وحنوط من حنوطها. فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين قال: فذلك قوله تعالى: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} قال: فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت، فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح؟ فيقال: فلان، بأحسن أسمائه حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقال: اكتبوا كتابه في عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون فيكتب كتابه في عليين. ثم يقال: ردوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول ربي الله وديني الإسلام، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به وصدقت قال: وذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: وينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله منها ويفسح له مد بصره. ويمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول: أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم فينقول: بشرك الله بخير، من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير؟ فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد، أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعًا في طاعة الله بطيئًا عن معصية الله فجزاك الله خيرًا. فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي قال: فإن كان فاجرًا وكان في إقبال من الدنيا وانقطاع من الآخرة جاء ملك، فجلس عند رأسه فقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه، فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين، قال: فتفرق في جسده فيستخرجها، تقطع منها العروق والعصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء والأرض، إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم، فيقولون: ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى قال: فيرمي به من السماء. قال: وتلا هذه الآية {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}. قال: فيعاد إلى الأرض وتعاد فيه روحه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه ويجلسانه فيقولون: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أردي. فيقولون: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال: محمد، فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك قال: فيقال: لا دريت، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول: أبشر بعذاب الله وسخطه، فيقول: من أنت فوجهك الذي جاء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله سريعًا إلى معصية الله».